قرأت مقالاً للمهندس علي عبد الفتاح على موقع (إخوان أون لاين) بعنوان: (الإسلام مرجعيتنا)، يدافع فيه عن البرنامج الحزبي الذي أعد الإخوان النسخة الأولية منه (وهذا حقه)، وقدم فيه في الوقت ذاته نقدًا لاذعًا لمن يخالف هذا الرأي، وهو أسلوب من النقد لا يسعُني إلا أن أختلفَ معه، حتى وإن صدر من شخص له في قلبي مكانة كمكانة المهندس علي.

 

والحقيقة أن منزلتي من المهندس علي هي منزلة التلميذ من الأستاذ، إلا أن ذلك لن يمنعني من أداء حقه عليَّ، وواجبي نحوه في النصح، الذي هو الدين كما في الحديث: "الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" والحقيقة أيضًا أن المهندس علي، بنشره هذا المقال على الموقع، لم يُبقِ لي إلا أن أعلِّقَ عليه بمقال على الموقع؛ أملاً أن يساعد ذلك في إثراء الحوار الداخلي الصحي الدائر حاليًّا حول نقاط الاختلاف في البرنامج.

 

ولا بد من إشارةٍ هنا لمن لم يعتَدْ من الإخوان على تقبُّل الخلاف الداخلي في الرأي، بأن أنوِّه بأن الإمام الشهيد حسن البنا كان يكتب المقال في جريدة (الإخوان المسلمين)، فيختلف معه فيه الأستاذ العشماوي، فيردّ بمقال في العدد اللاحق، ورغم أن البنا كان هو المحرِّرَ، إلا أنه كان ينشر المقال ولا يردُّ في العدد ذاته، بل يرد في العدد التالي ليقدِّمَ نموذجًا راقيًا للتسامح وتقبُّل الآراء المختلفة وعدم الخوف من طرح الخلاف الفكري على أعضاء الجماعة بل وعلى المجتمع عامة؛ علَّ هذا الاختلاف يؤدي إلى تطوير الأفكار وإصلاحها، وأولى بنا أن ننهج هذا النهج في التعامل مع خلافاتنا، وألا نخاف من أن تؤثر تنوعات الآراء على وحدتنا.

 

كان لا بد من توضيح تلك المسألة في المقدمة حتى نُنزِلَ الناس منازلَهم، وحتى يتمَّ التعامل مع الخلاف في الرأي بنفسيةٍ تحاول الاستفادة منه، ورؤيةِ إيجابياتِ كلِّ وجهةِ نظر، بدلاً من أن نتعامل معه بمنطق الإقصاء، وللدكتور محمد حبيب كلمةٌ عميقةٌ في هذا المجال، يقول فيها: إن هناك 360 درجة نحتاجها لكي ننظر إلى الأمر من جميع جوانبه، وكل من وجهات النظر المختلفة تمثِّل واحدة من هذه الزوايا، وبالتالي فكلما تعدَّدت وجهات النظر ازدادَ حجمُ الإدراك بحقيقة الموضوع محلّ النظر، وكانت القرارات المترتبة على ذلك أقرب إلى الصواب منها إلى الخطأ، وتلك ميزةٌ من مزايا الشورى، والإمام البنا يقول عن الإخوان: "فهم أوسع الناس صدرًا مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علمًا، وفي كل دعوة حقًّا وباطلاً، فهم يتحرَّون الحق" (1).

 

يقول المهندس علي في مقاله- معلِّقًا على اختلاف البعض حول مجموعة من القضايا المطروحة في البرنامج-: "هل الضغط الأمني الداخلي والحصار الإقليمي والعداء العالمي للإخوان المسلمين الدافع الرئيسي لهذه التصريحات؟! أرى أن صاحب هذه التصريحات يُسيء أولاً إلى الإسلام، وإلى الإخوان المسلمين ثانيًا، وإلى نفسه ثالثًا.. إن علامة ارتباط الرمز بتياره تقدَّر بقدر ما يعبِّر هذا الرمز عن ثوابت وأفكار ومنطلقات ورؤى ومرجعية هذا التيار، هل يظن هؤلاء أن تحسين صورتهم الشخصية أمام النخب السياسية يكون بنعتهم معتدلين، مع الاعتذار لهذا اللفظ الذي صار يُستخدم في غير معناه، فصار بمعنى التفريط ويطلق على (المفرطين)" (2).

 

وتلك كلمات قاسية جدًّا، ما كان ينبغي أبدًا أن تصدر عن قيادة إسلامية بحجم المهندس علي، ففضلاً عن كون مجموعة من أبناء الإخوان يتبنَّون هذه الأفكار التي انتقد من يتبنَّاها؛ فإن مجموعةً من المفكِّرين الإسلاميين والفقهاء لهم مثل هذه الرؤية، منهم على سبيل المثال: العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والمستشار طارق البشري، والدكتور محمد سليم العوَّا، والأستاذ فهمي هويدي، وهي كلها أسماء ناصعة، لا يجوز ولا يصح نعتُهم بمثل هذا، إن لم يكن لأيديهم البيضاء على الحركة، فلأنهم يصدرون تلك الآراء بعيدًا عن الضغط الأمني، ولأنهم خاضوا على طول تاريخهم من المعارك الفكرية التي انتصروا فيها لثوابت الأمة ما خاضوا، بل إنهم الورثةُ الشرعيون لمدرسة الإصلاح والتجديد الإسلامي، التي نشأت في نهايات القرن الماضي على يد الأساتذة: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، تلك المدرسة التي كان الإمام البنا أنجبَ أبنائها، والتي أقام على أفكارها جماعة الإخوان.

 

ثم إنه عند خلافنا في الأفكار لا بد أن نتعامل مع الأفكار ذاتها، لا أن نشكِّك في نوايا من كتبها، فالنية تدخل ضمن الغيب الذي قال فيه المولى سبحانه: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِيْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ﴾ (النمل: من الآية 65) ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ (الأنعام: من الآية 59) و﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ (الأنعام: من الآية 3)، ولا نستطيع نحن البشر أبدًا أن نحكم عليها، فيجب علينا أن ندَعَها جانبًا، وأن نتناول بالبحث ما أوتينا سبل بحثه، وأقصد بذلك الأفكار والآراء.

 

يأتي المهندس علي بعد ذلك ليناقش واحدةً من القضايا المثيرة للجدل في البرنامج، وهي قضية ولاية المرأة، ويستدل بالحديث الشريف "لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة" على أنه لا يجوز للمرأة رئاسة الدولة، قائلاً: "ولا يقولن أحدٌ إن الحادثة خاصة، فالأصل عموم اللفظ لا خصوص السبب" (3)، وهو يستند في ذلك إلى آراء مجموعة من العلماء على مدار التاريخ، ولكن ذلك ليس أبدًا موطنَ إجماع للعلماء.

 

فالدكتور يوسف القرضاوي يعلِّق على نفس الحديث في كتابه: (من فقه الدولة في الإسلام) متسائلاً: هل يوقف الحديث على عمومه أم يوقف به عند سبب وروده (أي عدم فلاح الفرس)؟!

 

ويجيب مؤكدًا أن القاعدة السابقة- التي استند إليها المهندس علي- "غير مجمع عليها"، مؤكدًا ضرورة مراعاة أسباب النزول، "وإلا حدث التخبُّط في الفهم ووقع سوء التفسير"، ويضيف: "ويؤكد هذا في هذا الحديث أنه لو أُخد على عمومه لعارض ظاهر القرآن"، مشيرًا إلى قصة بلقيس ملكة سبأ، ويضيف: "كما يؤكد صرف الحديث عن العموم الواقع الذي نشهده، وهو أن كثيرًا من النساء قد كنَّ لأوطانهن خيرًا من كثير من الرجال" لا يقف العلاَّمة المجدِّد عن هذا الحدِّ، بل إنه يؤكد أيضًا أن لفظة "ولوا أمرهم" تعني الخلافة قائلاً: "وهو ما لا يوجد اليوم" (4).

 

وينقل الدكتور محمد سليم العوَّا في كتابه القيِّم (النظام السياسي في الإسلام) الذي يحاور فيه د. برهان غليون عن بعض من الفقهاء المتقدمين قولهم بأن الحديث إخباريٌّ، أي أنه ليس نهيًا عن ولاية المرأة، وإنما هو تنبُّؤٌ من الرسول الكريم بأن الفرس لن يفلحوا، من دون أن تكون العلة في ذلك ولاية امرأة، إخبار كما في قوله تعالى ﴿غُلِبَتِ الرُّوْمُ﴾ (الروم: 2) (5).

 

نقطة ثالثة في هذا الأمر هي سؤال أطرحه: هل يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم رجلاً؟! إن تجربة الحضارة الإنسانية أثبتت لنا أن وجود الولاية في شخص واحد- بغض النظر عن دينه وجنسه- لا يؤدي إلى الفلاح؛ فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما يقولون؛ ولذا فنحن لا ننادي بسلطة مطلقة لرجل أو امرأة، وإنما بدولة مؤسسات، أو بعبارة أخرى: ندعو لأن "يتولى أمرنا" نخبةٌ منا، يختارهم الشعب عبر صناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة؛ ليمثلوه في المؤسسات المختلفة التي تُدير الحكم، ولا ندعو لأن نولِّيَ أمرَنا رجلاً أو امرأةً؛ ندعو للالتزام بالقاعدة الكلية التي أقرَّها القرآن، والتي تختلف إجرائياتها من زمن لآخر، وهي ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38) لا يولى رجلٌ أو إمرأةٌ بأعينهما.

 

قضية ولاية المؤسسات ووجود الدساتير التي لا بد من احترامها، تلك هي التي دفعت المفكر المستشار طارق البشري- الذي أراه أعلم أهل العصر من ذوي التوجه الإسلامي بمفهوم الدولة وبطبيعة القانون وأحوال الواقع، خاصةً في مصر- لأن يقول إنه لا مانع من أن يتولى أي شخص رئاسة الدولة؛ فالمطلوب هو إصلاح وتفعيل هياكل الحكم، وليس العمل للحيلولة دون وصول طرف أو آخر للكرسي؛ فمن يَصِل للكرسي- في الوضع الذي نبتغيه- لن يحكم منفردًا، ولن يكون صاحب سلطة بلا رقابة ولا قيود.

 

أعلم أن هذه القضايا خلافية، وهي ربما جديدة على الأمة، ولكن ذلك لأن الواقع اختلف، وطبيعة الدولة اختلفت، ومن ثم وجب التعامل معها بمنطق مختلف؛ لأننا- كما يقول البنا- "دعوة من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب" (6)، ولأن شريعة الإسلام فيها متسع لذلك، فهي- كما يشرح البنا- تحدد الأهداف العليا، وتضع القواعد الأساسية، وتتناول المسائل الكلية، ولا تتورَّط في الجزئيات، وتدع بعد ذلك للحوادث الاجتماعية والتطورات الحيوية أن تفعل فعلها، وتتسع لها جميعًا لا تصطدم بشيء منها (7).

 

وأنا هنا أقدم رأيًا آخر غير ذلك الذي طرحه المهندس علي وطرحه برنامج الإخوان، أطرحه من منطلق إسلامي لا من منطلق علماني؛ فالإسلام مرجعيتي التي أعتزُّ بها تمامًا كما هي مرجعيته، وتمامًا كما هي مرجعية الإخوان جميعًا بلا شك، ومرجعية الغالبية من المصريين، أطرح الرأي المغاير لا تأثرًا بضغط العلمانيين، ولا سعيًا لاسترضائهم، ولا أطرحه خوفًا من بطش الأمن؛ فلعلَّ الأمن سيكون أهدأ حالاً كلما ابتعدنا عن مناطق التوافق المجتمعي، وسيكون أكثر عنفًا كلما استطعنا الوصول لعدد أكبر من المثقفين والمفكِّرين، وإنما أطرح هذا الرأي لسببين:

أولهما: هو أنني لا أرى في إتاحة مجال التنافس للجميع مع إعطاء الأمة حقِّها في الاختيار اقترابًا أكثر من مقاصد الشريعة، التي من بينها مقصدا العدل والمساواة، ومن بينها مقصدان آخران مهمان في هذا المجال: مقصد (إنصاف المرأة)، ومقصد (تقرير كرامة الإنسان وحقوقه، وخصوصًا الضعفاء) (8)، ولا شك أن الأقليات ضعيفة، وكذا المرأة، ومن ثم كان واجبًا علينا التقدم وإقرار حقوقهم من دون انتظار أن يطلبوها هم، فما بالنا وقد طلبوها؟!

 

ثم إنني- ثانيًا- لا أجد مبررًا للدخول في صدام مع المثقفين في المجتمع، طالما أن القضية خلافية، وطالما أن هناك من الشرع متسَعٌ يؤدي للاتفاق، وليس في ذلك عيبٌ؛ فالسعي لتجاوز الخلافات هو سعي محمود، طالما أنه لا يأتي على حساب الثوابت الشرعية.

 

وبعد، فإنني أعرض هذا الرأي باعتباره رأيًا صحيحًا، ولكنه ليس (الرأي الصحيح)؛ فالصواب المطلق والحق المطلق لا يعلمه إلا من قال ﴿وَاللهُ يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ﴾ (الأحزاب: من الآية 4)، ولكنني أعرضه حتى أزيل الشبهة عمن اتُّهِموا بـ"التفريط"، وحتى نناقش خلافاتنا الفكرية فكريًّا، فنرى أيهما أقرب للمقصد والمصلحة الشرعية، ونناقشهم بمنظور الصواب والأصوب، لا الحق والباطل، ونناقش الأفكار من دون أن نقدح بمن قالها، وتبقى الشورى بآلياتها- بدءًا من إعطاء المساحات الكافيه لطرح كل رأي ووصولاً إلى التصويت- هي الوسيلة التي لا بد للجميع من الاحتكام إليها حين السعي إلى قرار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.

--------

(1) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، (رسالة دعوتنا).

(2) علي عبد الفتاح: الإسلام مرجعيتنا، موقع إخوان أون لاين: 27/10/2007.

(3) علي عبد الفتاح: الإسلام مرجعيتنا، موقع إخوان أون لاين: 27/10/2007.

(4) الدكتور يوسف القرضاوي: من فقه الدولة في الإسلام؛ ص 174، 175، طبعة دار الشروق 2001.

(5) د. برهان غليون، د. محمد سليم العوا: النظام السياسي الإسلامي، من سلسلة حوارات القرن الجديد، دار الفكر، 2005.

(6) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: رسالة دعوتنا في طور جديد.

(7) د. محمد عمارة: التجديد في المشروع الحضاري لحسن البنا؛ فصل في كتاب: المشروع الإصلاحي للإملم حسن البنا، تساؤلات قرن جديد، 2007، مركز الإعلام العربي.

(8) من المقاصد السبعة في كتاب: (كيف نتعامل مع القرآن العظيم) للدكتور يوسف القرضاوي، ص 73، طبعة دار الشروق 2005.