لا تستطيع كلماتٌ أن تعبر عن سعادتي بالردِّ القيِّم الذي كتبه أستاذي الدكتور محمد البلتاجي تحت عنوان: (المرجعية الإسلامية تقتضي أن تكون الأمة مصدر السلطات) على مقال سابق لي، نَشَره موقع (إخوان أون لاين) تحت عنوان: (الإسلام مرجعيتنا جميعًا).

 

ولسعادتي هذه شقَّان: شق شخصي؛ سببه روح الحب والمودة التي أبداها الأستاذ الكريم في مقاله، وشقٌّ موضوعي؛ سببه رقيُّ مستوى النقاش وموضوعيتُه، الذي أتمنَّى أن تستمرَّ لتعبِّر بصدق عن روح الحوار والشورى كما يجب أن تسود؛ فالمقال يوضح ويناقش بموضوعية نقاط الخلاف فيما بيننا.

 

ويُشكر لإدارة الموقع إتاحتُها المساحةَ لمثل هذا الحوار واحتضانُها لتلك التجربة الحوارية التي هي تراثٌ أصيلٌ لجماعة الإخوان، والتي أتمنَّى أن تستمر على نفس المنوال؛ لثقتي أنه مع كل مقال يُنشَر تزداد الرؤية عمقًا عند جميع الأطراف؛ وهو ما يؤثِّر إيجابًا على الحركة الإسلامية، ومن ثم على حركة الإصلاح الوطني في بلادنا.

 

والحقيقة أن ما شجَّعني على التعقيب هو ذلك الأمر، إضافةً إلى الكلمات المستنيرة التي ختم بها الدكتور البلتاجي مقاله؛ حيث قال: "ما أحوجَنا إلى الحوار الداخلي قبل الخارجي، بأدبياتنا الرفيعة!! وما أحوجَنا إلى الحوار الخارجي دون تبادل اتهامات بالجمود ولا بالتخوين!!" وتلك كلمات على بساطتها فهي تستحق أن توضع ميثاقًا للحوار؛ بحيث نخرج من دائرة (الشخصنة)، ونناقش الأفكار بموضوعية بعيدًا عن قائلها، ومن دون اتهام لنيته أو سوء ظن به؛ بحيث نجسِّد بصدق ما قاله البنا "ويعذر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".

 

ثم إن إشارة الدكتور البلتاجي لأهمية مشاركة الشباب في الحوار لهي تجسيدٌ حقيقيٌّ لمنهج طالما التزمته الجماعة منذ نشأتها؛ إذ إن الإمام الشهيد أنشأ الجماعة وهو في سنٍّ أصغر من سنِّي بعامين، وفضيلة المرشد الحالي كان قائدًا لكتائب الدفاع عن أرض الأمة وعرضها في فلسطين وهو يصغرني بأعوام أربعة، ثم إن معظم حوارات الإمام البنا وخطاباته في رسائله كانت للشباب، وكذا كان للشباب دورٌ فعَّالٌ في كل اللحظات المهمة في تاريخ الجماعة، لعل آخرها المشاركة في مظاهرات الإصلاح، وانتخابات مجلس الشعب، كل هذا يُسهم في إنضاج الفكر؛ بحيث تصبح المشاركة في الحوار الدائر حول البرنامج السياسي- الذي يمثِّل لحظةً هامةً بل تاريخية أخرى في تاريخ الجماعة- أمرًا طبيعيًّا إن لم يكن ضروريًّا.

 

ويطرح الدكتور البلتاجي في مقاله القيِّم مجموعةً من النقاط أتفق مع بعضها وأختلف مع البعض الآخر؛ فأما أهم ما أتفق معه فهو تلك الفقرة التي يتحدث فيها عن قواعد الحكم في الإسلام، والتي يختمها بقوله: "إن المشكلة ليست في الإرادة الحرة للأمة، ولكن مشكلتنا هي الاستبداد والقهر والتسلط والقمع الذي يمنع الأمة أن تسمع لنا، وأن تفهمنا على حقيقتنا دون عوائق أو تهديدات أو تشويهات".

 

وأظنني لا أجترئ على كلام الدكتور البلتاجي، ولا ألوي عنقه إذا قلت إن تلك الكلمات تعني أنه يتفق معي في أن معركة الإسلام الحقيقية الآن هي معركة إيجاد الديمقراطية وتوسيع قاعدة المشاركة فيها، وليس العكس كما يظن البعض أو يردد؛ بسبب سوء فهمهم لنا أحيانًا، وبسبب الرغبة في ترويع الناس من مشروعنا الإصلاحي في أحيان أخرى.

 

ويقودني ذلك لنقطة أختلف فيها مع الدكتور البلتاجي، وهي أنني أرى أننا في سعينا هذا لا بد أن نؤكد أن للجميع حقوقًا متساويةً، فلا يمكن لنا أن نفترض أن أقباط الأمة "سيتفهَّمون أن رمزية مهام رئيس الدولة حين تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة، بما في ذلك رعاية الدين وإنفاذ أحكامه، ستجعل مطالبتنا لهم بحمل أعباء هذه المسئولية- التي لا تتوافق مع عقيدتهم- ظلمًا لا نرضاه ولا يرضونه"، ثم نبني على ذلك قرارًا بمنعهم من الترشح للرئاسة، فقد يكون لبعض الأقباط، تمامًا كما قد يكون لبعض المسلمين، مشروعٌ سياسيٌّ مختلفٌ، ولا يحق لنا أن نحجر عليهم في هذا الأمر، طالما أن الخيار في النهاية للأمة، التي هي مصدر السلطات كما سبق وأشرت.

 

وأريد أن أكون واضحًا في تلك النقطة؛ فمن الطبيعي في أي انتخابات أن يختار كل ناخب المرشح الأقرب لرؤيته وبرنامجه، وبالتالي فمن الطبيعي أن أنتخب- وينتخب الدكتور البلتاجي وغيرنا من الإخوان- المرشح الإسلامي، أو أقرب المرشحين للمشروع الإصلاحي الذي نحمله، وذلك حق مكفول لا يحق لأحد أن يجادلَنا فيه، ولكن من حق أصحاب المشروع المخالف كذلك أن يرشِّحوا أنفسهم؛ فالقبطي إذا رشح نفسه فهو إما ارتضى أن ينفذ برنامجًا إسلاميًّا (إن كان من أبناء المشروع الإسلامي)، وإما اختار مشروعًا آخر (كما هو الحال ربما مع غيره من المسلمين الذين لا يختارون المشروع الإسلامي، والذين يسمح لهم برنامج الإخوان بالترشح)، وفي كلتا الحالتين فذلك حقه، وللشعب الحق في أن يختار من يشاء.

 

فإذا اختار الشعب خيارًا غير التيار الإسلامي- وهو الأمر الذي يثق الدكتور البلتاجي في عدم حدوثه لانحياز الأغلبية من الشعب المصري للمشروع الإسلامي- فإن هذا يعني أن أفكارنا لم تقنع الناس بالشكل الكافي، وبالتالي فإن المطلوب هو تحديدًا ما تحدث عنه الدكتور البلتاجي حين قال: "مشروعنا يتجه للقاعدة قبل القمة، والمجتمع قبل الحكومة"، المطلوب أن يكون التفاعل مع آليات الديمقراطية والحوار لإقناع الناس بمشروعنا، لا سدّ الطريق على مشروعات أخرى؛ بحيث لا يبقى بديلاً لمشروعنا، وإلا كنا مثل النظام الحالي الذي يصفه الدكتور البلتاجي بقوله: إنه يضع "شروطًا للإقصاء".

 

ويحمل كلام الدكتور البلتاجي افتراضًا آخر أراه في غير محله، وهو أن المسلم بالضرورة إن انتُخب رئيسًا فإنه سيحافظ على ثوابت الأمة، والواقع المشاهَد يقول خلاف ذلك؛ فكل رؤساء دول المسلمين هم من المسلمين، ومع ذلك فلا قرارات الحرب تراعي الرؤية الشرعية، فضلاً عن رعايتها لمصالح الأمة، ولا ثوابت الأمة يتم الحفاظ عليها، ولا المشروعات الإصلاحية الإسلامية يتم أخذها بعين الاعتبار.

 

خلاصة هذا القول والواقع أنه ليس كل مسلم يحافظ على الثوابت، ولا كل غير مسلم يدهسها، وبالتالي فإن الرهان على شخص واحد للحفاظ على ثوابت الأمة هو رهان خاسر، والحديث عن المؤسسات يجعل الأمر في يد الأمة لا في يد شخص، وبالتالي يبقى لنا بعضٌ من ميراث النبوة، أو العصمة من الخطأ لما في قول الرسول "لا تجتمع أمتي على ضلالة".

 

نقطة أخرى متعلقة بولاية المؤسسات، يتساءل الدكتور البلتاجي عما إذا كانت مصر دولة مؤسسات؟! وأقول إن مصر بشكلها الحالي دولة فرد واحد بلا شك؛ فالرئيس له صلاحيات مطلقة (أو تكاد تكون كذلك حتى أكون دقيقًا)، ولكن السؤال هو: هل رؤيتنا للنظام السياسي التي يعرضها الحزب تفترض الأمر ذاته؟ إننا نعرض في البرنامج رؤيةً لنظام نسعى لإصلاحه لكي لا يبقى بهذه الصورة، وهذا الإصلاح إنما يكون بترسيخ المؤسسية، وقد وصلني تعليق على مقالي السابق من الأستاذ فهمي هويدي، أضاف فيه فقرةً لموضوع حكم المؤسسات كنت أتمنى إضافتها للمقال، ولكن للأسف وصلتي بعد نشره، يقول فيها: "ولا بد أن نلاحظ هنا أن القرآن حين تحدث عن قيادة الأمة لم يستخدم صيغة المفرد وإنما تحدث دائمًا عن جماعة أو فريق؛ فلم يذكر ولي الأمر في أي نص قرآني، وإنما الإشارة دائمًا إلى أولي الأمر، حتى قيل في الأثر: "إن تصرف الفرد في المجموع ممنوع".

 

فإذا كان هذا هو النظام الذي نرغبه ونسعى إليه- وهو كذلك من دون شك- فإننا عندما نعرض التفصيلات فإننا لا بد وأن نعرضها في ضوء هذه الرؤية القائمة على المؤسسة، وهو ما يجرُّني للحديث عن آخر نقطة أناقشها، وهي تلك المتعلقة بتفسير الحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"؛ حيث يرى الدكتور البلتاجي- نقلاً عن أساتذة كبار هم د. ضياء الدين الريس، ود. عبد الرازق السنهوري- أن "الدولة القطرية حلَّت في استقلاليتها وصلاحيتها محل دولة الخلافة".

 

وأقف هنا عند نقاط ثلاث:

فأما الأولى فهي أن رؤية الدولة جزء من رؤية الواقع المرتبطة بالزمان، والأساتذة العظماء الذين سبقت الإشارة إليهم من زمان غير زماننا، وبالتالي فأخْذ كلامهم من زمانهم وإسقاطه على زماننا فيه ظلم شديد لهم، ثم إن المستشار طارق البشري- وأظن الدكتور البلتاجي يتفق معي في كونه أعلم أهل العصر بهذه الأمور- يرى خلاف ذلك.

 

وأما النقطة الثانية فهي أن تلك المناقشة تتجاوز نقاطًا طرحتها في المقال السابق حول مفهوم الحديث والذي يوقفه العلامة القرضاوي، كغيره من الفقهاء المتقدمين، الذين أشار إليهم الدكتور سليم العوا في كتابه القيم (النظام السياسي الإسلامي)، يوقفونه عند سبب وروده، ويجعلونه حديثًا إخباريًّا، إضافة إلى أنه يأتي بمعنى الولاية المطلقة التي لا مكان لها لرجل أو امرأة في دولة تقوم على المؤسسات.

 

وأما النقطة الثالثة التي وَدِدتُّ الإشارة إليها فهي موقع دولة الخلافة من هذا كله؛ فأنا أرى فيما يقوله الدكتور البلتاجي عن استبدال الدولة القطرية بدولة الخلافة بُعْدًا عن مفهوم (الأمة الواحدة) الذي يتحدث عنه القرآن، والذي يمثل أحد ثابتَين للحركة الإسلامية ثانيهما إقامة الشريعة، وتلك (الأمة) لا بد أن توجد، ونحن نتعبَّد بالسعي لإيجادها، وإن كانت هي الأخرى لا تقوم بالضرورة على (ولي أمر) له سلطات كبيرة، وإنما كذلك على المؤسسات.

 

ولعل ما طرحه الدكتور محمد عمارة قبل سنوات عن كون منظمة المؤتمر الإسلامي يمكن تطويرها وتفعيلها لتصبح نموذجًا معاصرًا لوحدة المسلمين هو كلامٌ يستحق التأمل؛ فهو بذلك يتخطَّى أزمة الدولة القومية مع الخلافة، ويوجد آليةً أكثر مؤسسيةً للحكم، وذلك كما سبق أقرب للمقاصد الشرعية.

 

أردت بذلك أن أشير إلى أن الكلام عن دولة المؤسسات ليس هروبًا من موضوع تولِّي المرأة رئاسة الدولة، وليس حلاًّ جزئيًّا لهذا الأزمة، وإنما هو حلٌ شاملٌ يحمل رؤيةً أراها أقرب للمقاصد من الحديث عن ولاية رجل أو امرأة.

 

وأنا هنا حين أنادي بعدم منع ترشيح القبطي والمرأة للرئاسة، فإنني لا أنسلخ عن مدرسة الإخوان، بل أنحاز لبديل من بين بدائلها الداخلية تبنَّاه أحد الورثة الشرعيين لمدرسة الإصلاح والتجديد ولأفكار الإمام البنا، وهو العلاَّمة الدكتور يوسف القرضاوي، وتبنَّاه معه مجموعة محترمة من المفكِّرين والمثقَّفين من أبناء ذات المدرسة، وكذا تبنَّاه عدد من أبناء التنظيم، وأرى أن هذا الرأي يدخل ضمن ما يصفه البلتاجي بأنه "ليس على حساب الثوابت قطعية الثبوت والدلالة، وفيها سعة شرعية، وسعيًا (ممن يطرحه) ألا نعطي الفرصة للمتربِّصين بمشروع الإصلاح الإسلامي العام ولا بمشروعنا الإسلامي".

 

تلك نقاط أطرحها للحوار، عالمًا أنها ليست "الجواب النهائي" لما هو مطروح للنقاش، وليست- بطبيعة الحال- كلمة الختام التي تحسم التباين في وجهات النظر، وإنما أطرحها لتضيف وجهة نظر ورؤيةً في حوار آمل أن يستمرَّ بذات الروح الإيجابية، ولكن على يد أشخاص آخرين.

 

ذلك أن استمرار النقاش بين نفس الأفراد يُضفي عليه نوعًا من السجال والشخصنة، وهو ما لا أريده لا أنا ولا أساتذتي الذين ناقشتهم بهذه الكلمات، ثم إن القارئ لا يعرف مدى الحبِّ والودِّ الذي يحمله كاتبُ هذه الكلمات لأساتذته الذين اختلف معهم وناقشهم، سواء المهندس علي أو الدكتور البلتاجي، وبالتالي فقد يُظَنُّ أن الموضوع سجالٌ شخصيٌّ، فنخرج به عن الموضوعية الحوارية التي نسعى إليها جميعًا تطبيقًا لقيمة الشورى؛ ولذلك فإن إشراك آخرين بآرائهم التي تمثل زوايا أخرى للنظر مهم بقدر أهمية هذا الحوار، واستعداد الجميع للتخلي عن المواقف السابقة (الصحيحة والنافعة) بحثًا عن (الأصوب) و(الأنفع) هو مفتاحُ النجاح لهذا الحوار، الذي أرى في استمراره مفخرةً حقيقيةً للجماعة، ونفعًا كبيرًا للدعوة، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.