الصورة غير متاحة

إبراهيم الهضيبي

 

يكتب المرء أحيانًا وهو يعلم أن من يقصده بالكتابة لن يستمع إليه، وأقول لن يستمع وليس لن يقرأ؛ لأنه كما قد يفوته المقال بالكلية فلا يراه، وقد يراه فيقرر ألا يقرأه، فإنه كذلك قد يقرأ ولكن يقرر من قبل أن يقرأ ألا يفكر، وأن يسدَّ أبواب عقله وقلبه فلا تنفذ إليها الكلمات، أو ما تحويه من نصيحة هي حقٌّ للكبير على الصغير وللصغير على الكبير.. نصيحة قد يكون فيها صواب أو بعض من صواب.

 

يكتب المرء حينئذٍ من باب شهادة الحق، ليس افتراضًا بأن ما يقوله حق مطلق، فحاشا أن يكون ذلك لغير الله القائل ﴿وَاللهُ يَقُوْلُ الْحَقَّ﴾ (الأحزاب: من الآية 4)، وإنما من باب تأدية أمانة تبليغ النصيحة، وتوضيح ما يراه صوابًا، ويعتذر بذلك إلى الله يوم القيامة فيكون كمن قالوا ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ (الأعراف: من الآية 164) يمتثل قول الرسول الكريم: "الدين النصيحة"؛ قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله الأئمة المسلمين وعامتهم".

 

والحقيقة أنني لا أتمنى أن أكون في هذا المقال كذلك، لا أتمنى أن أكتب فلا يسمعني من أخاطب، وإنما أتمنى أن يقرأ ويستمع وأن يأخذ بأحسن ما في القول، وأن يدع ما فيه من خطأ، ولكن إن أبى إلا ألا يستمع فلن يضرّني ذلك شيئًا، بل يكون ما في الكلام من خيرٍ حجة عليه، ويكون هو بذلك الخاسر.

 

وأقصد بهذا المقال القاضي العسكري، الذي سيحكم بعد أيام في القضية العسكرية لأربعين مدنيًّا قرَّر الرئيس مبارك إحالتهم للقضاء العسكري، القاضي الذي اختار مهنةً قيمتها الأساسية هي العدل، واختارته الأقدار ليكون بين الناس حكَمًا في قضية ملأت الدنيا ضجيجًا، وحكم فيها من قبل غيرُه بالبراءة؛ فأبت السلطة أن ترضخ لحكمه، وساقت المتهمين إلى المحاكم العسكرية، القاضي الذي سيقف على المنصَّة ينطق بالحكم، وكل من يشارك في إصدار الحكم.

 

إن العدل كما سبق هو القيمة الأساسية لمهنة القضاء، بل وهو القيمة العليا في الإسلام، القيمة التي بدونها تسقط الأمم والحضارات، كما في الحديث الشريف: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وهو ما وعاه ابن تيمية حين قال: إن الدولة الظالمة تسقط وإن كانت مسلمة.

 

والعدل لكي يكون حقيقيًّا فيجب أن يكون منزوعًا من الأهواء، فلا يحكمه حب ولا بغض ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا﴾ (المائدة: من الآية 2)، ويجب أن يكون منقطع الصلة كذلك عن الانتماء السياسي، بل وكافة الانتماءات بما فيها الديني، وقد نزل قرآن يتلى إلى يوم القيامة دفاعًا عن يهودي اتهمه بعض الصحابة ظلمًا بالسرقة، فجاءت الآيات البيِّنات: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) (النساء) إلى قوله تعالى ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ﴾، فجاء في الآيات وصفٌ لمن اتهم اليهودي من الصحابة بـ"الخائنين" الذين يختانون أنفسهم، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله؛ دفاعًا عن يهودي؛ فالحق أحق أن يُتَّبع، ولا يمكن إهدار قيمة كالعدل لمكسب سياسي أو لتجنُّب إحراج.

 

ومن أجل ذلك كان القاضي حكَمًا بين طرفين، يقدِّم له كلُّ طرفٍ أدلته ويناقشه فيها، ثم يحكم هو في القضية بحسب ما يراه من صحة الأدلة، وبقطع النظر عمَّن قدمها وعن مدى قوته وضعفه، فلو كان أيٌّ من الطرفين مكانَ الآخر فلا ينبغي لذلك أن يغيِّر من حكمه قيدَ أنملة، وإلا كان متبعًا لهواه؛ أي أنه في القضية العسكرية، وحتى يكون القاضي عادلاً، فإنه يجب أن يحكم على المتهمين بما كان سيحكم به على من اتهمهم، وفي نفس ظروف قوتهم وجبروتهم؛ فالحكم لا علاقة له بالأشخاص وإنما يتعلق بوقائع معينة لها من القانون أحكامٌ معينة، ينطق بها خالصةً من ضميره، لا يخالفه فيها ويتبع غيره، وإلا كان كمن قال فيهم المولى جل شأنه: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ (167)﴾ (البقرة).

 

لن أدخل في تفصيلات القضية السياسية والقضائية، فليس هذا مجالها ولست متخصِّصًا لأتناولها، وإنما أريد أن أقصر حديثي على ما سبق، أن أحصره على قضية العدل الذي يرضاه ضمير القاضي، وأتمنَّى منه ألا يكون أداةً للظلم، فيصدق فيه قول الله ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)﴾ (هود).

 

والحقيقة أنه لا بد من وقفة سريعة مع تلك الآية، وقد علق عليها الإمام مالك حين جاءه حارسه في السجن يسأله إن كان ممن تنطبق عليه؛ فأجابه مالك بالنفي قائلاً: "لست من الذين يركنون، وإنما أنت من الظالمين، وأما الذين يركنون إليهم فمَن يقدم لك طعامك ويُحيك لك ثيابك"، ثم تأتي الآية بعد ذلك وكأنها إجابة عن سؤال، فالركون للظالمين يكون أحيانًا بسبب الخوف؛ خوف من البطش أو خوف على رزق، ولكن المولى يؤكد أنه هو سبحانه وليُّ القاضي العادل، ولا وليّ غيره، هو الولي وهو القائل ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: من الآية 38)، فلا خوف من البطش، وهو الولي القائل ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)﴾ (الذاريات) فلا خوف على الرزق.

 

وبعد، فالظلم ظلمات، وظلم القاضي أشدُّ من ظلم غيره؛ لكونه ملجأً يحتمي إليه المظلومون، فإن أصرَّ على ظلمهم كان ظلمه عليهم أشدَّ وأقسى من ظلم جلاَّديهم، ودعوةُ المظلوم مجابةٌ، ليس بينها وبين الله حجاب؛ يقول الله عز وجل للمظلوم ردًّا عليها: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين".

 

وأثق أن القاضي لا يحب أن يَظلِم فيعرض نفسه لدعوات مجابة؛ من معتقلين وزوجات وأطفال، تخرج من قلوبهم، وربما تطال صحتَه وأهلَه وعِرضَه وأولادَه وأموالَه في دنياه، وربما تمتد لآخرته فتكون سببًا في عذابه، وقد أجاد المصريون فهم هذه القضية حتى قالوا: "يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم"، فلأن يكون المرء مظلومًا وله دعوة مجابة لا تُرَدّ وليس بينها وبين الله حجاب، وله وعد من الله بنصره على من ظلمه، أفضل من أن يبيت ظالمًا، فلا يغمض له جفن، ولا يهدأ له بال، وهو يعلم أن الله سينتقم من ظلمه، وسيناله بسببه عذاب في الدنيا والآخرة ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)﴾ (الزمر).

 

ولا يصح أن يعتذر بتفشي الفساد، أو ببطش النظام الحاكم، فذلك أدعى لأن يعدل فيكون سببًا في التغيير لا عونًا على القمع، ورحم الله الشاعر حين قال:

إذا جار الأمير وحاجباه           وقاضي الأرض داهن في القضاء

فويل ثم ويل ثم ويل             لقاضي الأرض من قاضي السماء

ألا هل بلغت..؟! اللهم فاشهد.