إبراهيم الهضيبي |
ها هو المشهد ذاته يتكرَّر بكل ملابساته التي كانت منذ عامين، وها نحن نتجه للأسلوب ذاته في التعامل مع الأمور، وكأننا لا نتعلم من أخطائنا، وكأنَّ قلبَ الأمة قد طغى على عقلها، فأصبحت غير قادرة على التقدير والتقييم؛ ذلك بالرغم من أننا لو فكَّرنا قليلاً لوجدنا أن أكبر دليلٍ على فشل أسلوب رد الفعل الذي اتخذناه في المرة السابقة هو تكرُّر الأزمة بنفس تفاصيلها بعد عامين بالتمام.
أتحدَّث- بكل تأكيد- عن قضية الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام والتي أعادت نشرها مؤخرًا بعض الصحف الدنماركية، وأُجمِلُ حديثي في محورين أتناولهما في ورقتين: الأولى تتناول أسباب الأزمة وسياقها، والثانية تناقش كيفية التعامل معها.
بدأت الأزمة الأولى للرسوم في الأشهر الأخيرة من عام 2005، ووصلت لقمتها في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2006؛ وذلك بعد أن نشرت إحدى الصحف الدنماركية الهامشية رسومات ساخرة تهزأ بخير الأنام محمد، وتَصِمه بالإرهاب!!، والحقيقة أنه ما من مسلم إلا وآلمته تلك الصور، إلا أنني الآن وبعد أكثر من عامين على الواقعة فإن ألمي قد ازداد؛ بسبب ما فاتنا إدراكه وقتها، وما غاب عن العقل المسلم في المرة السابقة، وأتمنَّى ألا يغيب عنه في هذه المرة.
كان عام 2005 هو قمة الانفتاح السياسي في مصر؛ بدأ بتعديل دستوري شديد التشوُّه، ولكنه فتح الباب أمام الترشح للانتخابات الرئاسية، وشهد العام عددًا غير مسبوق من المظاهرات المطالبة بالإصلاح، كان للإخوان نصيب الأسد منها، ثم جاءت انتخابات الرئاسة، واختُتم العام بانتخابات مجلس الشعب التي فاز الإخوان فيها بـ 88 مقعدًا.
وتمثَّلت دوافع هذا الانفتاح في ضغط خارجي وتحرُّك داخلي؛ فأما الضغط الخارجي فكان سببه فلسفة السياسة الخارجية الأمريكية في أعقاب أحداث سبتمبر، والتي أصبح البعد الأمني عنصرًا أساسيًّا من عناصرها، واعتمدت الرؤية الأمريكية في مكافحة الإرهاب، والتي نُشرت فيما بعد في سبتمبر 2006، على نشر الديمقراطية باعتبار القمع السياسي أحد مولِّدات الإرهاب، وكان الرئيس بوش وقتئذٍ يدفع باتجاه تغيير سياسي ديمقراطي سريع في المنطقة، عدَّلته بعد ذلك الإستراتيجية الصادرة في عام 2006، فجعلت الديمقراطية حلاًّ على المدى البعيد وليس القريب.
وفي نفس الوقت تقريبًا أعاد الاتحاد الأوروبي تقييمه لعلاقاته مع المنطقة، وانتقل من سياسة الشراكة إلى سياسة الجوار، ومال للخيار الأمريكي بنشر الديمقراطية، مع اختلاف الدافع ودرجة الصدق في المسعى والأساليب المتَّبعة.
المهم أنه في ذلك الوقت كان هناك دفع حقيقي باتجاه الديمقراطية، حتى إننا رأينا جريدةً كـ(الأهرام) تنشر حوارًا مع المرشد العام للإخوان، ورأينا الإخوان يُسمح لهم لأول مرة والأخيرة حتى الآن بأن ينظِّموا دعايةً انتخابيةً بمضايقات محدودة، وأن يشاركوا بكثافة في مظاهرات الإصلاح كان ردّ الفعل الأمني تجاهها محدودًا.
وكان الداخل أيضًا يضغط باتجاه الإصلاح، مستغلاًّ هامش الحرية الذي سمح به الضغط الخارجي، وتحرَّك الشارع المصري في مظاهرات وانتخابات أقضت مضاجع النظام، الذي بات مدركًا عجزه التامَّ عن الصمود إذا ما تلاقى الداخل والخارج على أيٍّ من المطالب.
وكان المشهد لا يختلف عن ذلك كثيرًا، خاصةً في المملكة العربية السعودية التي لم يكن الحراك الداخلي فيها بنفس القدر من الوضوح؛ نظرًا لطبيعة نظام الحكم والمؤسسة الدينية والتعتيم الإعلامي هناك، ولكن الضغط الخارجي كان جليًّا؛ لأن السعودية بما فيها من فكر وهَّابي كانت مهيأةً لأن تكون مصدِّرةً للإرهاب، خاصةً مع تنامي درجات القمع.
وفي هذا التوقيت نشرت جريدة هامشية الصور المسيئة، والحقيقة أن المدقِّق يدرك بسهولة أن تلك الرسومات لم تكن الإساءة الأولى، بل إني على يقين من أن عددًا كبيرًا ممن يقرأ هذا المقال وصله ويصله على البريد الإلكتروني عددٌ ضخمٌ من الرسائل التي تحمل أخبارًا عن صور ومقالات ومواقع وقنوات تليفزيونية مسيئة إلى الرسول، بل وبها تطاوُل على الذات الإلهية- والعياذ بالله!!- وهو ما كان من المفترض أن يدفع باتجاه سؤال بديهي: لماذا رد الفعل الآن؟ وهو سؤال غاب عني وقتها في خضمِّ الحماسة لقضية لا يمكن إلا أن تمسَّ قلب كل مسلم.
إلا أنني عندما أعود الآن لأقيِّم الأمور أجد أن الحكومتين المصرية والسعودية كانتا أسبق من الجماهير في رفض الإساءات، وأن ردود فعلهما كانت أعلى من المتوقَّع في مثل هذه الحالات، وأعلى مما اعتاده الناس منهما فيها يتعلَّق بثوابت الأمة، وما الموقف مما يحدث في فلسطين ببعيد.
ثم إنه من الملاحَظ أن الحكومتين كانتا تدفعان باتجاه الغضب؛ فالصحف الرسمية تنشر أخبار الموضوع في صدر صفحاتها الأولى، وأئمة المساجد كلهم يتحدَّثون في الموضوع من غير تضييق وضغوط أمنية متوقَّعة في مثل هذه الحالات، والمظاهرات تُنظَّم من غير تضييق أمني أو اعتقال.
ثم إن هناك ملحوظةً أراها أهم، وهي أن الحكومات العربية، سواءٌ التي بدأت الحملة أو التي انضمت إليها، لم تدفع باتجاه تشريعٍ يمنع تكرار مثل هذه الإساءات، وإنما دفعت باتجاه اعتذار حكومي تعلم أنه مستحيل؛ فمن قام بنشر الإساءات جريدةٌ مستقلةٌ، ولا يمكن بحالٍ أن تعتذر عنها الحكومة.
والحقيقة أن الحكومات العربية كانت تدفع باتجاه إظهار مشاعر العداء للغرب واللعب عليها؛ لتتمكن بذلك من خندقة الشعوب خلفها في مواجهة ضغوطات الإصلاح الغربية، والحقيقة أيضًا أنها نجحت في ذلك، وأن الغالبية العظمى من علماء المسلمين وعوامِّهم تأثَّروا بهذا الخطاب، وطفا على السطح خطاب المقاطعة والمظاهرات وحرق الأعلام؛ وهو ما أدَّى إلى تنامي مشاعر مماثلة عند جماهير غربية لم تكن جزءًا من الموضوع في بدايته.
ونجحت الحكومات بذلك في كسر ذلك التلاقي الداخلي الخارجي الضاغط للإصلاح، فساهم هذا في استمرارها في القبض على زمام الأمور؛ الأمر الذي ساهمت فيه أيضًا تطورات إقليمية مهمة وقعت في ذات الوقت.
وخلال العامين المنصرمين، أعادت مجموعة كبيرة من الصحف الغربية نشر تلك الرسوم ومثيلاتها من الإساءات، والحقيقة أنني تابعت الأمر قدر استطاعتي في تلك المدة؛ فوجدت أن الغالبية العظمى من الإساءات تخرج من دوائر صهيونية أو دوائر قريبة منها، والسبب في ذلك في ظني واضح؛ وهو أن تلك الدوائر أدركت أن رد فعل المسلمين تجاه مثل تلك الإساءات يكون غاضبًا، فتدفع هي في اتجاه نشر الإساءات بدعوى حرية التعبير، وبأتي الرد من المسلمين غاضبًا فتقوم بتفسيره باعتباره معاداةً للغرب وللقيم الغربية ولحرية التعبير، فتزيد من الهوَّة بين المسلمين والغرب، وتنتفع بذلك من علاقتها بالغرب.
المهم أن كل الإساءات التي جاءت خلال تلك الفترة لم تواجَه بردِّ فعل كتلك التي وُوجِهَت بها الإساءة المشار إليها، بل إن أغلبها لم يُشَر إليه من قريب أو بعيد، وعَرَفه البعض عن طريق البريد الإلكتروني، والبعض الآخر عن طريق متابعة الإعلام الغربي.
ثم جاءت الأشهر القليلة الماضية لتشهد تصاعدًا في الخطاب الغربي المُدِين لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، بدأت بتقارير حقوقية أدانت التعديلات الدستورية، تلاها استنكار دولي حقوقي واسع لفضائح التعذيب في مقارِّ الشرطة في مصر، ثم تغطية وإدانة واسعة لاستخدام أساليب قاسية في التعامل مع المعارضة السياسية؛ بدءًا بسجن أيمن نور، وإصدار أحكام بحبس رؤساء تحرير صحف مستقلة، ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، ووصل الضغط إلى قمَّته بقرار الاتحاد الأوروبي بإدانة الملف الحقوقي المصري وانتهاكات النظام المصري لحقوق الإنسان، ولأول مرة فشل الخطاب الرسمي المصري الذي اعتبر التقرير تدخُّلاً في الشأن الداخلي المصري، وكتب من لا يزايد على وطنيتهم يرفضون الموقف الحقوقي، ومن هؤلاء الراحل مجدي مهنا، ثم أصدر نوابُ الإخوان بيانًا قبلوا فيه القسط الأكبر مما جاء في القرار الأوروبي، ونفس الموقف اتخذته جُلُّ قوى المعارضة، فتلاقى بذلك الداخل والخارج مرةً أخرى، وإن لم تكن بتأثير المرة السابقة.
وهنا فقط ظهرت الحمية الدينية مرةً أخرى عند النظام المصري؛ فأدان إعادة نشر الرسوم الدنماركية، وتحرَّك دبلوماسيًّا بصوت مرتفع غير معهود منه، وبدأ في تجييش الشعوب في خندقه، حتى إن رئيس البرلمان الأوروبي الذي زار مصر والتقى برئيس البرلمان المصري وجد مسألة الرسوم المسيئة تطغى على المؤتمر الصحفي، ولم يكن القرار الأوروبي هو محور الحوار كما كان مفترضًا ومتوقَّعًا.
ولا أقصد بذلك أن النظام المصري بأكمله يتحرَّك بسوء نية؛ فذلك افتراض لا يحقُّ لي الخوض فيه، وهو مستحيل من الناحية العقلية؛ لأن النظام ليس على قلب رجل واحد، وفيه أطراف تعمل لصالح الوطن، وإنما أردت فقط أن أشير إلى قراءة أخرى قد يكون فيها بعض من عناصر الصحة للموقف من الرسوم؛ لعلنا بذلك نضيف إلى زوايا الرؤية زاويةً جديدةً، فنبني مواقف وردود فعل مختلفة، ربما تكون أكثر صلاحًا وتأثيرًا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.