إبراهيم الهضيبي

 

لحظة قاسية بلا شك هي تلك التي صدرت فيها الأحكام العسكرية الجائرة بحق قيادات وطنية حقيقية من جماعة الإخوان المسلمين، والحقيقة أن الألم العام هنا بحبس طاقات عمل وطني في أشد أوقات الحاجة إليها وطأةً لَيفُوق الألم الخاص بإبعاد أساتذةٍ وأحبابٍ لم أعتد غيابهم عن ساحة العمل الوطني، ولا أظن المقام مقام حديث عن ظلم الأحكام؛ فذاك أمر معلوم، ولا هو مقام نصيحة لمَن أصدر الحكم الظالم؛ فقد تمَّ ذلك بالفعل وقت إعداد الحكم.

 

نعم.. ليس الوقت وقت الحديث عن الماضي إلا في ضوء التعلم للمستقبل، ويجب أن ينصبَّ جلُّ الحديث عن المستقبل؛ ولذلك لن أتحدَّث عن الماضي إلا من خلال نقطة واحدة هي المتعلِّقة بالسياق الحاكم لصدور الأحكام.

 

والحقيقة أن النظام أجَّل إصدار الأحكام مرتين بسبب المواءمات السياسية، وبسبب الضغط السياسي الواسع الرافض للمحاكمة العسكرية، وكانت التوقُّعات تشير إلى التأجيل مرةً ثالثة، إلا أن الأيام القليلة السابقة للحكم حوَّلت الدفة بسبب قرارين رئيسيين للجماعة: أولهما عدم المشاركة في إضراب 6 أبريل، ثم مقاطعة الانتخابات المحلية في 8 أبريل.

 

لن أخوض في فَهْم هذه القرارات، ولن أناقش صحتها ومسبباتها؛ فأنا أستطيع أن أتفهَّمها، ولكني أستطيع كذلك الجزم بأنها جاءت من خانة رد الفعل لا التخطيط الإستراتيجي، أي إنها لم تكن مكونات ضمن إستراتيجية سياسية حاكمة متناسقة، وظهرت بسبب ذلك متناقضة بشكلٍ كبير، أثَّر على علاقة الجماعة بالنظام والمعارضة على حدٍّ سواء.

 

أريد أن أقول هنا إن الحسابات السياسية الخاطئة والناتجة عن غياب إستراتيجية متكاملة تحكم الحركة السياسية للجماعة هيَّأ المناخ لإصدار تلك الأحكام.

 

والحقيقة أنني لا أريد أن أتوقَّف كثيرًا عند تلك النقطة- على أهميتها- لأنني أعرف أن الجدل حولها مُحبِط ومُهدِر للطاقات، ولا يوجد ما هو أكثر خطرًا علينا من هذه وتلك، ولكني متيقِّن من أن هناك جهات ومؤسسات في الجماعة تنظر في هذا الأمر، وتقوم بواجبها في النقد الذاتي والتطوير والعلاج.

 

وأما ما أريد أن أتناوله بشيءٍ من التفصيل هو أن هذه القضية لم تنتهِ، ولن تنتهيَ بإذن الله إلا بالإفراج عن كل معتقلٍ سياسي في مصر، وطالما أن القضية لا تزال حيةً فإن العمل من أجلها سيبقى بإذن الله؛ فما زال هناك الاستئناف، وهو من الناحية القانونية لا يختلف عن الحكم الابتدائي؛ نظرًا لأن القضاء هو ذاته فاقدٌ الاستقلاليةَ اللازمة للعدالة، وفاقدٌ الحصانةَ اللازمة لقول الحق، ولكن الظروف السياسية ممكنٌ أن تختلف، ومن الممكن أن نتحرَّك بشكلٍ أوسع وأعمق في مجابهة هذا الفساد، وقد أصبح الكل يعرف أن هناك أطرافًا من النظام ترفض هذه المحاكمات، حتى إن أحدهم قال ذلك في حديث مع قناة "الجزيرة إنترناشونال".

 

الذي أريد قوله هو أنه لا تزال هناك مساحات من الحركة، وهي باقية بفضل الله ومنِّه؛ ولذلك لا بد من استغلالها والتحرُّك فيها بحثًا عن الحرية بدلاً من الإحباط والحزن والبكاء عما فقدناه منها.

 

وهذه الحركة لا بد أن تعيَ أن العدالة لا تتحقَّق لتيارٍ دون الآخرين، ولا لفصيلٍ بعينه؛ ولذلك يجب أن تتوسَّع في مطالبتها بالعدالة القضائية أولاً بالإفراج عن كلِّ المعتقلين السياسيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية برفض صور الاحتكار والفساد الاقتصادي والمالي الحاكم، والالتحام بالناس ومشاركتهم في مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية، وعدم التذرُّع بالخوف من الفوضى لعدم وجود قيادة سياسية في الشارع؛ فمن العيب أن تتذرَّع قوة شعبية مثل الإخوان بذلك؛ لأنه إن لم تتمكَّن هذه الحركة الشعبية ذات الجماهيرية الممتدة والتاريخ الطويل من قيادة الشارع فإن ذلك يعني فشلاً كبيرًا لها.

 

ولا بد للجماعة من بعض الخيال السياسي في ابتكار أساليب جديدة للحركة كُلْفتها أعلى للنظام وأقل للجماعة، أساليب متعددة في مجالات العمل الإعلامي والشعبي والنخبوي؛ حيث إن أساليب العمل الحالية أصبحت محفوظةَ الأشكال قليلةَ التأثير، ولإدراك أهمية تطوير أساليب العمل يكفي الإشارة إلى الحراك الكبير الذي أحدثته المدونات باعتبارها وسيلةً إعلاميةً فرديةً جديدةً، ويجب على العقل السياسي في الجماعة أن يُبدع في ابتكار الأساليب الأخرى التي تضاعف من فعالية الأعمال وتزيد من النجاحات ومن الضغط على النظام.

 

وتأتي قضية نفسية مهمةٌ جدًّا وهي كيفية تعاملنا مع هذه الأحكام؛ فهذه الأحكام الجائرة لا يجب أن تخيف أحدًا ولا أن تحبط، بل على العكس، يجب أن تكون حافزًا حقيقيًّا للعمل الإيجابي لرفع الظلم؛ ذلك أن وجود الظلم المتفشِّي بهذه الطريقة يعني أنه من الممكن أن يطال الجميع، ولا سبيل للتأمين من هذا الخطر إلا بمجابهته ومحاصرته؛ فأنا بعد أن رأيت مَن هم في عمر والدي يعانون هذا القهر وهذا الاستبداد أشعر بالحاجة الشديدة لمحاربة الظلم؛ حتى لا يضطر أبنائي في وقت من الأوقات إلى مواجهة نفس المصير.

 

نقطة أخيرة لكنها لا تقل أهميةً.. هي أن هذه الأحكام تهدف فيما تهدف إلى تتريس التيار الإسلامي في خندقه الأخير الذي يبعد فيه عن العمل السياسي والانفتاح ويختبئ فيه خلف مفاهيم الابتلاء والصبر بدلاً من الإصلاح والعمل والتغيير، وهذا الأمر إن حدث فإنه سيكون شديدَ الخطورة على الحركة الإسلامية بل وعلى مصر، وسيُضعف من الخيوط التي تربط بين التيارات المعارضة الساعية للإصلاح والتغيير؛ وهو ما يؤخِّر حركة الإصلاح ويفتح الباب أمام المزيد من الظلم والاستبداد.

 

وبعد.. فإن هذه اللحظة على قسوتها تستحق تعاملاً حكيمًا، ولكنه فعَّال ومُجدٍ من أجل تحرير رهائن الحرية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإنقاذ سفينة الوطن من رُبَّان أهوج وطاقم عابث، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.