إبراهيم الهضيبي |
في حياة الحركات الوطنية المصرية لحظات فارقة لا يمكن نسيانها، قد يدور الجدل حول حقيقة شعبيتها، أو حول مدى تعبيرها عن حالة عامة في الشارع المصري، ولكن لا يدور الجدل حول تأثيرها وأهميتها.
ولعل العودة والنظر إليها تفيد في فَهْم طبيعة الخطاب الوطني الذي يُلزم الحركات السياسية المختلفة لإحداث تغيير مطلوب في الحالة العامة.
أتصور أن من أهم تلك اللحظات ثورة 1919م، وثورة- أو انقلاب، ولا داعي للخوض في هذا الجدل- يوليو 1952م.
والناظر إلى الوقعتين لا بد له من إدراك حقيقة مهمة، وهي أن من قاد ثورة 1919 (وهو سعد زغلول، ممثِّلاً التيارَ الليبرالي/ العلماني) ومن قاد ثورة 1952 (وهو جمال عبد الناصر ممثِّلاً التيار القومي) قد التزما- لكي يحدثا تغييرًا- خطابًا وطنيًّا مصريًّا عامًّا لا أيديولوجيًّا خاصًّا، ومطالب تمثِّل إجماعًا مجتمعيًا لا علاقة لها بفئة معينة ولا بتيار سياسي دون غيره.
فثورة 1919م قامت أساسًا للمطالبة بالاستقلال السياسي الوطني، وهو مطلب جامع للحركات المصرية آنذاك، ربما كانت التيارات الإسلامية تراه أحد مكونات الاستقلال الحقيقي الذي يشمل كذلك الاستقلال الحضاري، ولكن على كل حال فقد كان مطلب الاستقلال السياسي حاضرًا في الخطاب الإسلامي كأحد مكوناته الأساسية، تمامًا كما كان حاضرًا في خطاب التيارات الوطنية الأخرى.
وثورة 1952م قامت أيضًا للمطالبة بالاستقلال، ولمحاربة فساد النخبة الحاكمة، الذي أدَّى إلى إذلال القوات المسلحة كما حدث في النكبة، ولكن بغض النظر عن النكبة التي كانت نتيجةً، والتي أثارت- من دون شك- غضب المصريين، فقد كانت المطالب غير أيديولوجية، وإنما مرة أخرى وطنيةً عامةً.
وإن كان للمرء أن ينظر إلى التاريخ لا باعتباره قصة وإنما باعتباره حقل أبحاث اجتماعية لكي يُكَوِّن خبرة تاريخية حقيقية، فيلزم القول إن الحركات الوطنية المصرية دون استثناء لم تتعلم من هذا الدرس؛ فلا التيارات التي حققت هذه اللحظة من النجاح (التياران القومي والليبرالي/ العلماني) ولا التي لم تحققها (التياران الإسلامي واليساري) قد محورت إلى الآن مطالبها في إطار وطني جامع لا أيديولوجي (وأحيانًا حزبي) ضيق.
ويحار المرء في فهم الأسباب؛ فالظروف السياسية في مصر تُظهر لذوي الأبصار أن الأزمة ليست أيديولوجية، والأولوية التي يفرضها الواقع السياسي على القوى الوطنية المختلفة من المفترض أن تزيد من مساحات العمل المشترك والعمل الوطني العام؛ ذلك أن النظام السياسي المصري لا توجد له أزمة أيديولوجية مع بعض قوى المعارضة، وليست لديه رؤية فكرية يتفق معه البعض فيها ويختلف معه البعض الآخر، وإنما يستمد ذلك النظام كل سياساته من إستراتيجية البقاء التي ينتهجها، ويساوي بين معارضيه في القمع، أو يجعلهم على قدر القدرة على التأثير ودفع عجلة التغيير، لا بسبب مواقف أيديولوجية أو فكرية بعينها.
والخلافات الأيديولوجية لا يصح بأية حال أن تكون ذات تأثير مركزي في الأجندة السياسية لقوى المعارضة في مصر؛ فلا أظن أن سيطرة المؤسسات الدينية على الدولة أمر واقع في بلادنا يشكل أزمة للعلمانيين- هذا على افتراض وجود تيار علماني شامل بتعريف الدكتور المسيري، وهو ما لا أتصوره؛ فالغالبية في مصر من النخبة والجماهير على حدٍّ سواء تدرك أهمية وجود الدين على الأقل كإطار حضاري يحدد منظومة القيم الحاكمة-؛ إذ الواقع هو أن الدولة تفرض سيطرتها التامة على المؤسسات الدينية بما يشوِّه مدنية الدولة، وأنها تزحف زحفًا غير مقدس تستولي به على المؤسسات الدينية وتُفقدها استقلاليتها؛ فرئيس الجمهورية يُعيِّن شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية والبابا ووزير الأوقاف، والنظام يملك نصَّين دستوريَّين (هما الثاني الخامس) يتحرك بينها وفق مصلحته لتحديد حجم ونوع العلاقة بين ما هو ديني وما هو سياسي، فيشوِّه بذلك الدين والسياسة جميعًا؛ نظرًا لعدم وجود آلية مؤسسية واضحة تحدد نوع العلاقة بينهما، وذاك أمر لا بد من الوقوف أمامه وفقًا للمصلحة الوطنية العامة، وهو أمر يمكن أن تجتمع عليه جميع التيارات.
والجدل الدائر حول الخصخصة ليس أيديولوجيًّا فحسب، وإنما هناك إجماع وطني على رفض أسلوب الخصخصة وما يشوبه من فساد، ولا أظن الليبراليين الوطنيين يختلفون في رفضهم هذا الأسلوب الفاسد في إدارة ممتلكات الشعب عن مواقف الاشتراكيين الرافضين للخصخصة من الأساس، وبالتالي فالحديث عن رفض هذا الأسلوب من الخصخصة من منطلق اعتباره إهدارًا لمقدرات الشعب لا من منطلق أيديولوجي يجعله مطلبًا وطنيًّا حقيقيًّا يتفق عليه الليبراليون والاشتراكيون بدلاً من أن يختلفوا.
والموقف من الأمة العربية ليس هو العامل الوحيد الحاكم لعلاقة النظام المصري بقطاع غزة؛ إذ إن المخاطر على الأمن القومي المصري تبدو مخيفة مع السياسات المصرية تجاه القطاع؛ فوجود المقاومة في القطاع هو بلا شك- وحتى بقطع النظر عن أي انتماءات عربية أو إسلامية- تأمين للأمن القومي المصري، وبالتالي فرفض السياسات المصرية في القطاع، والتي لا تخدم إلا أجندة تسويق عملية التوريث، لا يأتي فحسب من التيارات العربية والإسلامية، وإنما- في ظني- يأتي كذلك من التيارات الليبرالية واليسارية التي تسوق مطالبها في إطار وطني، أما تلك التيارات التي تحاول عزل مصر عن الصراع الدائر على حدودها فنظرتها، ولا شك، أيديولوجية ضيقة مفتقدة للحس الوطني.
ولا يمكن للتيار الإسلامي (السياسي أقصد) ألا يكون اهتمامه الأساسي توسيع مساحة الحريات العامة وترسيخ قيم العدالة والرحمة في القوانين وتنفيذها، وإلا كان خارجًا على التاريخ وعلى مقاصد الشريعة وفقه الواقع؛ فالحديث عن الفروع سفهٌ إذا غابت الأصول، ولا يمكن الحديث عن أصول نظام سياسي يقبله الإسلاميون إلا إن كان قائمًا على الحرية والتعدد، ولا يمكن الحديث عن قبول نظام اجتماعي لا يقوم في أساسه على الرحمة والإنسانية المشتركة، حتى وإن كان في ظاهره (أو في جزئياته، وليس صورته الكلية) إسلاميًّا.
وكذلك فإن الحرص على حسن تربية أفراد المجتمع والارتقاء بالمستوى الأخلاقي لهم ليست قضية الإسلاميين فحسب، بل هي قضية وطنية تشغل كل سياسي يرى حالة التفسخ الاجتماعي والارتفاع المرعب في معدلات الجريمة التي تعيشها البلاد، ولعل الحديث المتكاثر عن أزمة التحرش الجنسي في الآونة الأخيرة يدق ناقوس الخطر للجميع، والحل لتلك المشكلة ليس في المسجد فحسب ليستأثر به الإسلاميون، وإنما هو في منظومة اجتماعية واقتصادية وسياسية متكاملة تهيئ المناخ لوجود أخلاق طيبة في المجتمع، والعمل على إيجاد تلك المنظومة لا بد وأن يشكل جزءًا مهمًّا من أولويات الحركات السياسية على اختلاف انتماءاتها.
المطلوب من الحركات الوطنية المصرية ليس أن تتنازل عن أيديولوجياتها، وإنما أن تفهم حقيقتها، وحقيقة المشكل الذي يواجهه الوطن، وأن تربط بين هذه الفلسفات ومشكلات المجتمع المصري، وأن تنزل بهذه الأفكار إلى أرض الواقع المصري، وأن تفككها وتكيفها على الواقع المصري لتتفاعل بها بشكل حقيقي مع مشكلات وتحديات ومطالب الشارع المصري، وأن تتعاون مع بعضها لإيجاد أرضية وطنية لهذه المطالب وتنطلق بأفكارها وأيديولوجياتها من هذه المطالب الوطنية، وإلا فقدت فاعليتها وصلتها بالشارع وقدرتها على التغيير وتحقيق لحظة نجاح، وفقدت قبل ذلك كله وطنيتها.
---------
* باحث سياسي