لا شك عندي في أن مشهد عدم التوازن بين الدولة والمجتمع (أو الدولة والأفراد كما هو الأمر في الحقيقة)، والذي سبق الحديث عنه في مقال سابق يعوق فرصة أي إصلاح سياسي حقيقي في الوقت الحاضر، ويجعل الإصلاح الاجتماعي هو الأساس الذي لا بد أن تركِّز عليه القوى الوطنية المصرية بكافة اتجاهاتها، إضافةً إلى الإصلاح الهيكلي الاقتصادي الذي يصعب القيام به من مواقع المعارضة، وبالتالي تبقى الأولوية للإصلاح الاجتماعي وإعادة تنظيم المجتمع وبناء الكيانات الوسيطة بين الدولة والأفراد التي يحتمي بها الأفراد ويستطيع بها المجتمع الدفاع عن حقوقه والتماسك أمام النظام.
وفي ظني أن هذا الإصلاح الاجتماعي الذي يجب أن يكون أولوية لا بد أن يسحب بعضًا من جهود الإصلاح السياسي، ولكنه لا ينبغي أبدًا أن يسحبها كلها؛ إذ لا بد أن تبقى هناك بعض المعارضة والمقاومة السياسية للنظام وما يقوم به.
فالمقاومة السياسية لقوى المعارضة- وإن كانت ضعيفة ومحدودة- أفضل من الصفر، وهي تحد، ولو قليلاً، من الخسائر السياسية العملاقة التي يتحملها الوطن كل يوم بسبب قرارات النظام السياسية، وهي خسائر يصعب تعويضها، وتدفع ثمنها أجيال تأتي من أبناء هذا الوطن، وبالتالي فإبقاء الحد الأدنى من المقاومة السياسية أمر لا بد منه.
وأعني هنا أن هذه المقاومة تقف في وجه مشروعات عملاقة للنظام في نهبٍ لمقدرات الشعب، وتلاعبٍ بمصيره، وتقنينٍ للفساد، و"دسترةٍ" للاستبداد حتى تكرِّس الوضع الحالي لصالح النخبة الحاكمة، فلا تقوم للشعب قائمة في المستقبل المنظور، والمقاومة السياسية تحد من هذه الأمور على الأقل، فيمر بعضها ويقف البعض الآخر، ثم إنها تفضحها إعلاميًّا فتزيد من الوعي الشعبي، وتفتح النوافذ للتغيير في انتظار فتح الأبواب، ومن النوافذ يُرى النور، وتطرح أفكار يستمع إليها الناس ويعلمون أن البديل موجود، وفي ظروف سياسية محلية وإقليمية وعالمية محددة تستطيع هذه المقاومة السياسية التقدم، ولو خطوات محدودة، إلى الأمام؛ وذلك أمر له نتائج شديدة الإيجابية من الناحية النفسية على الأقل؛ إذ يبعث الأمل بإمكانية التغيير.
والمطلوب إذن هو إعادة النظر في التوازن ما بين السياسي والاجتماعي عند الحركات الوطنية، وإعادة النظر في أجندة الإصلاح السياسي لتتماشى مع طبيعة هذه المرحلة وتحقِّق أكبر قدرٍ ممكنٍ من النجاح.
وفي ظني إن الأجندة السياسية الوطنية تنقسم إلى شقين: دفاعي وبنائي، فأما الدفاعي فمقصود به التصدي للاستبداد والفساد متى وُجد وبأنسب الطرق وأكثرها فعاليةً، والتصدي لمفاجآت النظام التي لا تنتهي، خاصةً التي تتعلَّق بالفساد والاستهتار في التعامل مع مقدرات الشعب والأجيال القادمة منه، مثل فضيحة تصدير الغاز إلى الكيان الصهيوني بفُتاتٍ من ثمنه (وهي هنا قضية وطنية جامعة لا أيديولوجية خاصة ببعض التيارات الوطنية؛ فأنا لا أتحدث عن فكرة التصدير التي قد يدور حولها خلاف، وإنما عن السعر البخس الذي هو إهدارٌ لمال المصريين).
وهذا الشق الدفاعي تقوم به جل الفئات السياسية بشكل مقبول، وإن كان التطوير والتنسيق فيه ممكنًا، وهو يتم غالبًا من خلال نواب مجلس الشعب المعارضين، ومن خلال فضح هذه الأمور في وسائل الإعلام المختلفة، وفي بعض الأحيان من خلال اللجوء إلى الشارع في مظاهرات وخلافه، إلا أن مثل هذه الخطوة غالبًا ما تفتقد التنسيق والدعاية اللازمة، فضلاً عن أن التاريخ الطويل من انعدام الثقة بين التيارات الوطنية المختلفة (لأسباب جلها صحيح، ولكنها قابلة للعلاج إن صدقت النوايا) يضعف من فرصها.
وأما الشق البنائي- وهو في ظني الأهم- فيتمحور في المطالب الأساسية السياسية التي يجب أن تركز عليها القوى الوطنية كحدٍّ أدنى إلى حين إيجاد مجتمع قادر على دفعها إلى الأمام، وأتصوَّر أن هذه المطالب تتلخَّص في حقوق الإنسان؛ فتلك القضية هي الأهم في طريق الإصلاح السياسي الذي لا يمكن أن يتم في مناخ مليء بالخوف من الاعتقال والتعذيب وتكميم الأفواه وقصف الأقلام والقفز على إرادة الشعب في الانتخابات وغيرها من أشكال إهدار حقوق الإنسان.
وأتصور أن الدفع باتجاه هذه الحقوق بالتنسيق بين أكبر قدر ممكن من التيارات الوطنية له مزايا عدة؛ فهو أولاً- كما سبق- يهيِّئ المناخ للإصلاح السياسي الحقيقي الذي لا يتأتَّى إلا في هذه الظروف، وهو ثانيًا يساهم بأي مكاسب، ولو محدودة، قد يحقِّقها في عملية إعادة البناء المجتمعي، وهو ثالثًا يزيد الوعي المجتمعي بثقافة حقوق الإنسان، وهو أمر مهم جدًّا، سواء في الإصلاح السياسي، أو في إيجاد علاقات مجتمعية صحية بعد ذلك، أو حتى في بناء نموذج حضاري متسامح يتقبَّل التنوع الموجود داخل المجتمع المصري، وهو رابعًا يُوجِد مساحات مشتركة كبيرة بين الحركات الوطنية المصرية والمجتمع المدني العالمي؛ وذاك أمر يقلِّل من الدعم الدولي الذي يستخدمه النظام المصري في بطشه بقوى المعارضة.
وأتصوَّر أن مطلب حقوق الإنسان هو مطلب وطني، بل إنساني عام، لا يختص بتيار سياسي دون غيره، وأتصوَّر أن إطار حقوق الإنسان الذي نتحدَّث عنه هو إطار مُجمَع عليه، أو على الأقل هناك تقبُّلٌ عام له من أغلب القوى، وبالتالي لا أرى صعوبةً في البدء في محاولة تركيز المطالب الوطنية والتركيز أكثر على الإصلاح الاجتماعي.