تعتبر التربية هي المنهجية التغييرية الرئيسية عند الإخوان، بل والمميزة لخط الإخوان وعملهم، وإن كانت كل الحركات الإسلامية تصدر من معين واحد وهو الكتاب والسنة، وتسير نحو غاية واحدة وهي إرضاء الله سبحانه والتقرب إليه, إلا أن الجميع يختلفون في كيفية تحقيق ذلك، وكلٌّ له وسائله التي اقتنع بها وعمل لها، ومنهج الجميع تغييري لا خلاف في ذلك، لكن الاختلاف في منهجية التغيير، فحين ارتضى البعض التغيير الذاتي الفردي في النفوس وإصلاحها كأفراد وانتظار سنن الله الغيبية للنصرة الغيبية حين يرى الله الصلاح في نفوس البشر؛ فقد ذهب البعض الآخر إلى أن التغيير المعرفي والثقافي والانكباب على العلم وتعلمه سيؤدي حتمًا إلى تغيير النفوس، وبالتالي استدعاء قضية النصرة الغيبية من الله حين يرى إخلاص نفوسهم، وسبيلهم في ذلك هو الفردية والسعي إلى الله فرادى في الدنيا كما سيأتون فرادى في الآخرة، حتى الدعاء والجهر به والاجتماع عليه جعلوه من البدع المنكرة، فضلاً عن اجتماع الناس لتغيير المنكر أو المطالبة بالحقوق المهدرة، حتى حينما وقفنا على القبر وحان وقت الدعاء قالوا: الدعاء بدعة، والسنة أن يدعو كل واحد في سره.

 

وذهب البعض إلى عكس ذلك فرأى أن التغيير لا بد أن يكون بالقوة، ومن أعلى إلى أسفل؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولأن ذلك سيُحدث فوضى وقتلى بغير ذنب فقد بحثوا ونقبوا في كتب الأقدمين وأخذوا من رأي المحدثين ما يبرر لهم سعيهم ومنحاهم، إلى أن ارتئوا فساد هذا الرأي بعد سنين من إراقة الدماء، فعمدوا إلى الدعوة والتربية.

 

والإخوان أخذوا التغيير التربوي منهاجًا وأساسًا لهم في دعوتهم من البداية، حين رسمت خطوات الدعوة في جماعة الإخوان؛ ولأن هذا المنهج التغييرى طويل وشاق ويحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمل للمشاق والعقبات فقد حذَّر الإمام البنا من استعجال الثمرة قبل أوانها، ولأن هذا المنهج يبني النفوس على أسس راسخة لا تتغير ولا تهتز بالمحن، وتتميز بالثبات على المبدأ؛ لذا فقد ناوشتها الحكومات واضطهدتها النظم الفاسدة عبر العصور، ولأن تبعات ذلك على الصف كبيرة والتضحيات ستكون عظيمة فقد حذَّر الإمام البنا من تكالب الأعداء والحكام والحكومات عليكم ممن تمتد أيديهم إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة، وطالب الأتباع بالصبر والثبات.

 

والتربية عند الإخوان ليست للصف فقط، بل هي تربية للمجتمع وللأمة كلها، ولأن التربية هي عمل الرجل في ألف رجل وليست قول الرجل ولا كلامه؛ لذا كان الأمر شاقًّا، ولأن نتاج التربية يأتي عبر السنين والأعوام وليس خلال فترة قصيرة أصبح عمل الإخوان وتربيتهم للمجتمع لا تظهر للمتابع على المدى القصير، وهنا توجه الانتقادات إلى الإخوان من غيرهم من الحركات الإسلامية بأنهم (أي الإخوان) لا يفعلون شيئًا، أو ماذا قدموا، والإنصاف يستدعي النظر إلى الآثار بنظرة بعيدة، ويقارن تغير المجتمع وتحوله خلال العقود المتتالية وكيف كان حال المجتمع قبل الإخوان؟ وكيف حاله بعد عقد من الزمان أو عقدين؟ ثم كيف حاله الآن؟ وهذا هو الأثر التربوي للإخوان في المجتمع، وهكذا يقاس؛ لأن التغيير التربوي للمجتمع وللأمة مشروع أجيال متتابعة.

 

التربية في ميزان الإخوان

إلى هنا والكلام من المجتمع أو من غير المقبول، وهذا حق من لا يعرف أن يسأل صاحب الشأن ليجيبه، لكن أن يصير هذا الكلام أو يكون مصدره صف الإخوان فهذا هو ما يستوجب الوقوف عنده، ليس دفاعًا عن التربية ولا تعصبًا لأهلها، ولكن إنصافًا وجب علينا أن نضع الأمور في نصابها.

 

وبداية الإنصاف هو تحرير المصطلحات حتى تتضح الأمور وتوضع في نصابها: فلا بد أن نفرق بين "العملية التربوية" و"مناهج التربية" و"المحتوى التربوي" و"الإدارة التربوية" و"آليات وإجراءات تنفيذ العمل التربوي" و"متابعة وتقييم وتقويم العمل التربوي" و"المهمة" و"المسئولية", كل هذه المصطلحات وفحواها وأدوارها رأيت فيه خلطًا كثيرًا استوجب التصحيح والتوضيح:

أولاً: العملية التربوية:

هي عملية تفاعل للفرد مع المحتوى الثقافي أو المعرفي بالآليات المختلفة لتحقيق هدف محدد في الفرد يمكن توصيفه هو تحويل المعارف في الفرد إلى سلوك قويم، وهي مهمة المربي في المقام الأول, وإن كانت مسئولية الجميع.

 

ثانيًا: المناهج التربوية:

هي كل الوسائل التربوية المختلفة والأعمال والأنشطة والمحتوى الثقافي أو المعرفي من المقررات الدراسية اللازمة لتحقيق الأهداف.

 

ثالثًا: المحتوى التربوي:

هو المقرر الدراسي من الكتب والوسائط، وهذه المواد الدراسية تمثل الحد الأدنى من الثقافات والمعارف التي يتوجب على الفرد معرفتها، كما أن هذه المواد الدراسية وُضعت بعناية لتحقق أهدافًا محددةً سلفًا.

 

ويقاس قوة المحتوى الدراسي وضعفه أو كثرته وقلته بالهدف الذي يحققه، فيقال: هذا المقرر الدراسي كافٍ أو غير كافٍ لتحقيق الهدف، ولا يصح أن يقال تعميمًا: إن المناهج الدراسية أو المقررات ضعيفة أو قوية على الإطلاق.

 

نقطة أخرى، هي أن الأهداف التي وضعت لكل مرحلة لم تربط كلية بالمقرر الدراسي لتحقيقها؛ لأن المقرر الدراسي أحد الوسائل وليس هو الوسيلة الوحيدة, وهذه الأهداف وُضعت للمربي ليحققها في الأفراد بما أعطي من وسائل وملكات، كذلك فقد قسمت الأهداف والمقررات الدراسية إلى 6 مراحل متتالية متتابعة تتدرج بطريقة علمية دقيقة مفادها أن المقررات الدراسية في المراحل الـ6 تشكل في مجملها المقرر الدراسي الذي ارتضاه الإخوان كحد أدنى لتحقيق الأهداف في الأفراد، كما أن الأهداف المختلفة في المراحل الـ6 تمثل الأهداف التي ارتضاها الإخوان أن تتحقق في أتباعهم, وعلى سبيل المثال من الأهداف التي وضعها الإخوان لأفرادهم: (الالتزام بالشورى ممارسةً وتطبيقًا)، هذا هو الهدف في صورته المثلى، ولكي يتحقق عبر المراحل المختلفة كانت البداية بصورة مبسطة (أن يقبل بالرأي الآخر وينزل عن رأيه لغيره حسمًا للخلاف)..

 

رابعًا: الإدارة التربوية:

هي المجموعة القائمة على إدارة العمل والتخطيط له ورسم الأهداف وشرح الوسائل وكيفية تحقيقها وتقديم الدعم الفني اللازم لذلك، وهي مهمة لجان التربية والقائمين عليها، وهذه اللجان ليس لها سلطان إداري, فهي لا تحاسب ولا تعاقب ولا توثق ولا تضعف، بل لها مهام واضحة لا تغفلها مثل التدريب والتأهيل وتفعيل الوسائل التربوية، والإعلام التربوي، وهنا يجب أن أشير إلى أن البعض يعتقد اعتقادًا خاطئًا أن لجان التربية هي التي توثق وتضعف وتضيف وتحذف، وهي التي تمسك بيدها مبضع الجراح تعمل به في جسد الجماعة دون رادع، وهذا والله محض افتراء على هذه الدعوة، وإن كان هناك من لجان التربية من يفعل ذلك فليتق الله في دعوته، ولا يعطي نفسه حقًّا ليس له، وإن كنت أرى أن رجال التربية وقد عايشتهم عن قرب هم أكثر الناس فهمًا ونضجًا، وأكثرهم معرفة بمهامهم الشاقة الموكلة إليهم، وإن كان الخطأ موجودًا في كل المجتمعات لأننا بشر ولسنا ملائكة، بل الحقيقة المسطرة في لائحة الجماعة والتي رأيتها ومارستها عملاً وتطبيقًا أن التوثيق يتم على ثلاث مراحل متتابعة تشكل لكل مرحلة لجنة يمثل التربية في كل لجنة من هذه اللجان فرد واحد له صوت واحد مثله مثل غيره، ثم تقوم هذه اللجان برفع تقريرها إلى الجهة الإدارية المختصة لتتخذ قرارًا بالتوثيق أو التضعيف، وهنا وجب أن ننبه إلى أن المجالس الإدارية هي المسئول الأول عن تنفيذ ومتابعة وتفعيل العمل الدعوي والتربوي.

 

خامسًا: آليات وإجراءات تنفيذ العمل التربوي:

وهو ما تقرره الجهات الإدارية من وسائل وآليات تتناسب مع الأفراد وظروف الزمان والمكان لتحقيق الهدف، والمسئول عنها هنا هو المجالس الإدارية، سواء أكان مجلس الشعبة أم مجلس المنطقة أم المكتب الإداري للمحافظة، ويعتبر مسئول الشعبة هو المسئول الأول عن تفعيل العمل التربوي وتفعيل الوسائل والمحاسبة عليها، وليس للجان التربية الحق في ذلك، بل إن لجان التربية هي من تقوم بالدعم الفني وتجهيز الدعم وتطوير النقباء والمسئولين وإمدادهم بما يحتاجون إليه لأداء مهامهم والمتابعة التربوية وليس الإدارية، ورفع التقارير إلى المجلس الإداري المختص ليتخذ قراره، وهنا تضيع المسئولية ويتراجع العمل حين تتخلى الجهة الإدارية عن عملها انشغالاً بما دونها من الأعمال كالاستغراق في حل المشكلات أو تنفيذ التعليمات الواردة على كثرتها في الحصر والعد وملء الاستبيانات (وهذا ليس تقليلاً من هذه التعليمات ولكن انشغالاً بالمهم عن الأهم)، وتقوم لجنة التربية بهذا الدور تعمل بلا سلطان حقيقي، فتستدعي لها سلطانًا وهميًّا فتضر من حيث أرادت النفع.

 

متابعة وتقييم وتقويم العمل التربوى:

وهذه المتابعة تشمل المتابعة بأنواعها المكتبي والميدانية والاستقرائية، وكذلك التقييم أي التشخيص الدقيق على أي شيء يدل هذا الفعل، وهذه كلها يقوم بها ويشارك فيها المربي ولجنة التربية، أما التقييم وهو العلاج فهو مهمة ومسئولية الإدارة أي المجلس الإداري (مجلس الشعبة والمنطقة أو المكتب الإداري) وبالتالي علاج الظواهر السلبية مسئولية المربي، والمجلس الإداري صاحب القرار والسلطان الإداري, والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

 

المهمة والمسئولية:

المهمة محددة لفرد معين أو قسم محدد أو لجنة لها مهام خاصة بها تعمل على تحقيقها.
أما المسئولية فهي عامة، والدعوة مسئولية الجميع، وعلاج الظواهر السلبية مسئولية الجميع، وحماية الدين مسئولية المسلمين جميعًا، وإن كانت حراسة الثغور مهمة الجند في الجيش.

 

هذه السطور أردت بها أن نتعرف على التربية الإخوانية ودورها وأثرها على المجتمع وكذلك نفض الاشتباك الوهمي الذي نشأ في الأذهان عند البعض من أن التربية ورجالها هم من نصبوا أنفسهم أوصياء على الدعوة يوثقون من يشاءون ويضعفون من يشاءون، وأنهم من يسيرون بالجماعة في الدهليز السري، والحقيقة غير ذلك، فتركنا الداء وأسبابه وصنعنا لنا خصمًا وهميًّا جعلناه هو سبب الداء، فأردت أن تتضح الصورة لنحسن التشخيص فنحسن العلاج.