"إن شجرة الحضارة البشرية تترنح اليوم، وتهتز كما كانت تهتز وتترنح قبيل مولد "الرجل الذي وحَّد العالم جميعه، فما أشدُّ حاجة البشرية إلى رسالة محمد لتنقذها مرة أخرى"(1).

 

لقد أصبح الإسلام- اليوم- لأهل الأرض جميعًا ضرورة بشرية، فضلاً عن كونه فريضةً شرعيةً، خاصة بعد أن شهدت البشرية أفظع فواجعها وأبشع جرائمها، بما جنته حضارة الغرب المادية الجسدية، وبما خلفته حضارة الشرق الإلحادية الدموية، دفعت البشرية ثمنها حروبًا وويلات وأوبئة ومجاعات ومطامع وصراعات.

 

ومن هنا يبرز دور الإسلام، وتتميز دعوته، وتتجلى حاجة البشرية إليه في هذا الزمان.

 

ومن هنا تبدو جسامة الجريمة التي يرتكبها من يحاولون تذويبنا في أية حركة، أو أية منظمة، أو أي اتجاه عالمي جديد، إنهم حين يرتكبون جريمتهم تلك، يكونون قد أجرموا في حق البشرية كلها، لا في حق الإسلام وحده، ولا في حق الوطن الإسلامي.

 

وعندما تسقط أمتنا الإسلامية في هذا "الشَرَك" وتُستدرج إلى هذه التبعية المهينة، تكون قد أجرمت في حق ربها مرتين: مرة حين دعيت إلى مقام الخيرية فأبت، وانتدبت إلى مقام القيادة فنكصت وأحجمت، فكانت بهذا النكوص والإحجام من أعظم الأمم جهلاً وأشدها حمقًا.

 

ومرة أخرى: حين هيأت الفرصة- بإخلاء مقام القيادة- لمن ليسوا لها أهلاً، فانحرفوا بالبشرية عن طريقها، وارتكسوا بها إلى هوة سحيقة، وأوردوها موارد الدمار الرعيب، والفناء الرهيب.

 

لقد نجحت الحضارة الغربية في إحراز انتصارات باهرة في عالم الفضاء، وأجهزة الاتصالات، ووسائل النقل، وشبكات المعلومات والحاسبات.. كما نجحت في اختراع وسائل التدمير والإهلاك والإفناء، لكنها أُخفقت إخفاقًا ذريعًا في أن تحقق لأصحابها لحظة من الهدوء النفسي، أو الانسجام الروحي، أو الارتواء العاطفي، ولا يزال عقلاء الغرب يستشعرون بشاعة الجريمة، وخيبة الأمل، وسواد المصير، ويحاولون عبثًا أن يوقفوا تيار هذا السعار المجنون فلا يستطيعون.

 

يقول المفكر الإنجليزي جود: "إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلهة، ولكننا نستعملها بعقل الأطفال والوحوش"(2).

 

ويقول في موضع آخر من نفس الكتاب:

"إن هذا التفاوت بين فتوحاتنا العلمية المدهشة، وطفولتنا الاجتماعية المخجلة، نواجهه على كل منعطف ومنعرج، فنحن نستطيع أن نتحدث من وراء القارات والبحار، ونرسل الصور بالبرق، ونستمع في سيلان إلى دقات "Big Ben" الساعة العظمى تضرب في لندن، ونركب فوق الأرض والبحر وتحتهما، والأطفال يتحدثون على الأسلاك البرقية، والزروع تنمى بالكهرباء والشوارع تفرش بالمطاط، والأشعة نوافذ نطل منها على داخل أبداننا، والصور المتحركة تتكلم وتغني، والغواصات تذهب إلى القطب الشمالي، والطيارات تطير إلى القطب الجنوبي، ومع ذلك كله لا نقدر في وسط مدننا الكبرى أن نخصص رحبةً يلعب فيها أطفال الفقراء في راحة وسلام، ونتيجة ذلك أنا نقتل منهم ألفين (2000) ونجرح منهم تسعين ألفًا سنويًّا"(3).

 

وهذا شاهد آخر من أبناء الحضارة الغربية ممن اصطلوا بنارها، هو الدكتور "ألكسس كاريل" يقول في كتابه: "الإنسان ذلك المجهول":

"يظهر أن الحضارة العصرية لا تستطيع أن تنتج رجالاً يملكون الابتكار والذكاء والجرأة، ففي كل قطر تقريبًا يرى الإنسان في الطبقة التي تباشر إدارة الأمور، وتملك زمام البلاد، انحطاطًا في الاستعداد الفكري والخلقي، إننا نلاحظ أن الحضارة الغربية لم تحقق الآمال الكبيرة التي عقدتها عليها الإنسانية، وأنها أخفقت في تنشئة الرجال الذين يملكون الذكاء والإقدام، الذي يسير بالحضارة على الشارع الخطر الذي تتعثر عليه، إن الأفراد والإنسانية لم تتقدم بتلك السرعة التي تقدمت بها المؤسسات التي نبعت من عقولها، إن علمنا بالحياة، وكيف يجب أن يعيش الإنسان متأخرًا جدًّا عن علمنا بالماديات، وهذا التأخر هو الذي جنى علينا"(4).

 

ويصور العالم النمساوي المهتدى محمد أسد، حالة الحضارة الغربية التي تتزعمها أمريكا وأوروبا اليوم، ويريدون أن يفرضوا نظامها القاتل على العالم كله فيقول: "لا شك أنه لا يزال في الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب ديني، ويبذلون جهدهم في تطبيق عقائدهم، بروح حضارتهم، ولكنهم شواذ، إن الرجل العادي في أوروبا، ديمقراطيًّا كان أو فاشيًّا، رأسماليًّا كان أو اشتراكيًّا، عاملاً باليد أو رجلاً فكريًّا، إنما يعرف دينًا واحدًا، وهو عبادة الرقي المادي والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة، غير أن يجعلها الإنسان أسهل، وبالتعبير الدارج "حرة مطلقة" من قيود الطبيعة، أما كنائس هذا "الدين" فهي المصانع الضخمة، ودور السينما، والمختبرات الكيماوية، ودور الرقص، ومراكز توليد الكهرباء، وأما كهنتهم فهم رؤساء الصيارف، والمهندسون، والممثلات وكواكب السينما، وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون، والنتيجة التي لا مفر منها في هذه الحال هي ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلاح، والاستعدادات الحربية، مستعدة لإبادة بعضها بعضًا إذا تصادمت أهواؤها ومصالحها، أما في جانب الحضارة فنتيجتها ظهور نوع من البشر تنحصر فلسفته الأخلاقية في الفائدة العملية، ويكون أسمى فارق لديه بين الخير والشر هو النجاح المادي لا غير"(5).

 

ويلخص الصحفي الأمريكي المشهور "جون جنز" نفسية تلك الحضارة في كلمات قليلة فيقول: "إن الإنجليز إنما يعبدون بنك إنجلترا ستة أيام في الأسبوع، ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة".

 

وأمام هذه الشهادات المتواترة من أقوال عقلاء الغرب ومفكريه، وكذلك شهادة الواقع الذي ينطق في كل لحظة ويؤكد في كل لفظة، أن حضارة الغرب لم تنجح في قيادة الأمم إلى ما يحقق طموحها، ويشبع رغباتها، ويروي ظمأها الروحي، والعاطفي، ولم يبق إلا أن يتقدم المسلمون إلى هذه البشرية بالإسلام.

 

هذا هو الأمر الباقي للبشرية كلها اليوم، والذي لا يوجد على وجه الأرض كلها غيره، ويكفينا في ذلك قول الخالق سبحانه وتعالى:

﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ (آل عمران: من الآية 19)، وقوله: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ (85)﴾ (آل عمران).

 

وليقيننا الكامل والعميق من كلام ربنا- سبحانه- ما كنا لنحتاج إلى كلام آخر، لكن الخطاب موجه إلى غير المسلمين، وهم المقصودون بدعوتنا، فإننا سنسوق نماذج من أقوال علماء الغرب، يشهدون بها على أن الإسلام هو أمل أهل الأرض جميعًا للخروج بالبشرية من هذا الجحيم الرهيب.

 

يقول ج. هـ دينسون، في كتابه "العواطف كأساس للحضارة": "إن شجرة الحضارة البشرية تهتز وتترنح اليوم كما كانت تهتز وتترنح قبيل مولد الرجل الذي وحَّد العالم جميعه، فما أشد حاجة البشرية إلى رسالة هذا الرجل لتنقذها مرة أخرى".

 

ويقول العالم النمساوي "ليبولد فايس" مبينًا سبب دخوله في الإسلام: "لقد تمكنت من المقارنة، بين أكثر وجهات النظر الدينية والاجتماعية التي تسود العالم الإسلامي في أيامنا، وهذه الدراسات والمقارنات خلقت في العقيدة الراسخة أن الإسلام من وجهتيه الروحية والاجتماعية لا يزال- بالرغم من جميع العقبات التي خلفها تأخر المسلمين- أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر، وهكذا تجمعت رغباتي كلها منذ ذلك الحين حول مسألة بعثه من جديد"(6).

 

ويقول في موضع آخر من كتابه: "الإسلام على مفترق الطرق": "نحن نعد الإسلام، أسمى من سائر النظم المدنية؛ لأنه يشمل الحياة بأسرها، إنه يهتم اهتمامًا واحدًا بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد وبالمجتمع، إنه لا يهتم فقط، بما في الطبيعة الإنسانية من وجود الإمكان إلى السمو، بل يهتم أيضًا بما فيها من قيود طبيعية.. إنه ليس سبيلاً من السبل، ولكنه هو السبيل! وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاديًا من الهداة، ولكنه الهادي، فاتباعه في كل ما فعل، وما أمر اتباع للإسلام عينه، وأما إطراح سنته فهو إطراح لحقيقة الإسلام"(7).

 

ويقول الكاتب الإنجليزي (Robert Briffault) في كتابه (The Making of Humanity):

"ما من ناحية من نواحي تقدم أوروبا إلا وللحضارة الإسلامية فيها فضل كبير، وآثار حاسمة لها تأثير كبير"(8).

 

ويقول في موضع آخر: "لم تكن العلوم الطبيعية- التي يرجع فيها الفضل إلى العرب- هي التي أعادت أوروبا إلى الحياة، ولكن الحضارة الإسلامية قد أثرت في حياة أوروبا تأثيرات كبيرة ومتنوعة، منذ أرسلت أشعتها الأولى إلى أوروبا"(9).

 

وإذا كان للمسلمين أن يفخروا- بحق- بأنهم يملكون أعظم منهج شهدته الأرض، وأكمل نظام عرفته البشرية منذ خلقها الله وإلى أن تقوم الساعة، فإن عليهم أن يذوبوا خجلاً، وأن يحترقوا ألمًا، أن صار حالهم إلى هذا الحال، وآل أمرهم إلى هذا المآل، فأصبحوا وهم يملكون مقومات السيادة أذلاَّء، وصاروا وهم يستجمعون كل أسباب القوة ضعفاء، إنها حالة من الذهول عن الذات، تصل إلى درجة الغيبوبة الكاملة.

 

وهذه الحالة هي التي أثارت عجب أمير الشعراء أحمد شوقي، فقال يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرًا شاكيًا:

شعوبك في شرق البلاد وغربها     كأصحاب كهف في عميق سبات

بأيمانهم نوران: ذكر وسنة     فما بالهم في حالك الظلمات

 

وإذا كان حال الأمة الإسلامية اليوم قد أصبح يدعو إلى الألم والحسرة، فإن الذي يبشر بالخير، أن العقلاء من هذه الأمة، ساهرون على أمرها، مشغولون بإيقاظها، حريصون على استعادة مجدها ومكانها، يستمدون العون في ذلك من الله سبحانه وتعالى، القائل:

﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾ (غافر).

 

وإذا كنا نحن المسلمين، مطالبين جميعًا- ضرورة وواجبًا- بالتقدم لحمل الرسالة وأداء الأمانة، والتقدم إلى أهل الأرض بالإنقاذ، فإن ذلك يحتاج منا إلى إحسان التلقِّي، وإخلاص النية، ووضوح الغاية، وجدية العمل لهذا الدين، مع فهم عميق لطبيعة المهمة التي انتدبنا الله سبحانه وتعالى لحملها، ومعرفة بطبيعة الميدان الذي نتحرك فيه على أن يكون ذلك كله ممتزجًا بحالة من المعية الصادقة الموصولة بالله، واحتساب كل ما نلقى في الطريق من شدائد، وما يعترضنا من أهوال، جزءًا من طبيعة المهمة، وبعضًا من مهر الحسناء. وقديمًا قيل: "ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر".

----------

الهوامش:

(1) ج. هـ دينسون من كتابه "العواطف كأساس للحضارة".

(2) الأستاذ جود، هو رئيس قسم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن، والنص منقول من كتابه:

.Guide To Modern Wickedness.

(3) كان هذا الكلام في الأربعينيات من القرن الماضي، فانظر كيف يكون الأمر الآن؟!.

(4) Alexis Carrel. Man. The Unk nown. 141.

(5) انظر: الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد ص 47.

(6) انظر: الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد ص 16.

(7) انظر: الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد ص 110.

(8) P. 190.

(9) P. 202.