ذكريات حول الخلافة الضائعة

 

ترجمة وإعداد: أحمد يوسف*

 

كانت مزرعة التمر التي يملكها الشيخ عبدالحميد تقع جنوب غربي مسجد “قباء”، حيث تعد امتداداً لطريق الهجرة، أما الصحبة التي جرت ونحن جلوس على السجاجيد المفروشة تحت النخيل فتعد من اللحظات التاريخية. قال الإمام البنَّا: آه لو تملك هذه الجبال والصخور والطرق لساناً فتحكي لنا، فهي التي رأت بأم أعينها قصص الهجرة العظيمة التي قرأناها في التاريخ، يا شيخ عبدالحميد، ألم ينشد الأنصار: "طلع البدر علينا.. من ثنيات الوادع"، هنا على هذه التبة؟ بعدها تطرق الإمام لحال الأمة الإسلامية، وأخذ يحكي وكأن ما يحكيه يحدث اليوم، حتى وصل إلى إسقاط الخلافة، وقال: الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين يعلم هذه الأمور أكثر منا؛ لأنه أكبر منا سنًّا، وقد عاش معترك الأحداث، والتحق كمتطوع للجهاد في الجيش العثماني، وشارك بنفسه في حرب “شنكلة” المشهورة، وكان من المفترض أن يكون معنا الآن ويحكي بنفسه. وأخذ يروي ما نقله عن الشيخ الحسيني: لم تقم الحرب العالمية الأولى لهذا السبب ولا لغيره، بل كان المقصد والهدف هو هدم الدولة العثمانية ومحو الخلافة الإسلامية، وترك المسلمين مفرقين بلا رأس، وقد أطلقت الدول النصرانية هذه الحرب على الممالك الإسلامية للسيطرة على ما فيها من بترول ومعادن، واستعمرتها حتى تفرق دول العالم الإسلامي.

 

بكاؤنا على الخلافة

 

وأضاف الشيخ البنا هذه الكلمات: سمعت يومًا الشيخ أبا الحسن الندوي يقول: عندما سمعنا خبر إسقاط الخلافة ونحن في الهند، كان هناك مأتم في بيت كل مسلم، فالقيمة التي كان يعطيها الهنود المسلمون للخلاقة كانت شيئًا آخر.. "يوم سقوط الخلافة أصبح العالم الإسلامي كأطفال يتامى مات عنهم أبوهم وهم في سن صغيرة". لم يتحامل الأستاذ البنَّا دموعه وهو يقول هذه الكلمات ورأيته يمسحها بمنديله بحياء. أين المسلمون الأتراك الذين كانوا يقولون: إن الخلافة ليست أمرًا مهمًّا ولا فائدة منها، والذين يدّعون أن المسلمين في البلاد الأخرى لا يريدون اتباع الخلافة أصلاً؟! ها هو مسلم هندي لم يرَ "إسطنبول" من قبل يبكي بحرقة على سقوط خلافتها!.

 

السلطان "عبد الحميد"

 

طالت صحبة الإمام البنَّا لنا في المزرعة- القريبة من مسجد "قباء"- وأخذ ينقل ما قاله الشيخ أمين الحسيني في حق السلطان “عبدالحميد الثاني”: السيد المفتي يعرف السلطان "عبدالحميد" جيداً؛ وقد ذكر لنا أن السلطان “عبدالحميد” أعطى فرماناته وأوامره وتعليماته لكاتب العدل ورئيس المحكمة ومسؤول القدس؛ بألا يأخذ اليهود مكاناً في المسجد الأقصى، إياكم أن يُباع لهم أي ملك عقاري أبداً، حتى لو أعطوا الذهب وغزير المال! وللأسف ها هي حالنا اليوم بعد فقداننا هذا البطل والسلطان العاقل؛ أعطينا اليهود ملكية فلسطين، وقد عاصرنا هذه الأيام المؤلمة للأسف. كانت مقابلتي الإمام حسن البنَّا حين أتى للحج عام 1948م، وكانت هذه آخر حجة له، وآخر مقابلة لي أيضًا به! فقد استشهد بعد عودته من رحلة الحج هذه بأربعة أشهر، في شهر فبراير 1949م على يد أعداء الإسلام وخونة هذه الأمة. وفي أواخر أيام الحج، ليلة ثاني أيام العيد وثالث أيام منى، أعلن أن الإمام البنَّا سيلقي كلمة بجانب الخيام المصرية، وأخبرنا أن الدعوة عامة لكل من يستطيع المشاركة، وبدأ إعداد المكان. وبدأ الإمام كلمته بعد صلاة المغرب، وكان يقول بأعلى صوته: “ما دعوة الإسلام؟ كيف نضحي لأجل هذه الدعوة؟ كيف نعمل من أجلها؟”.

 

شيخ مهموم

 

وبينما الإمام البنا في حديثه، قام أحد المسنين، يريد أن يقول كلمة؛ وكان الإمام البنَّا يعرفه؛ فأعطاه الميكرفون، وأخذ الرجل يتكلم: “أسأل الله عز وجل السلامة؛ أنا أعرف هذا الشيخ البنَّا منذ صغره، كان زجاج نظارته لونه أخضر، فهو يرى الصخور السوداء والأفق الأسمر في لون أخضر! ولكن قد بات واضحًا أن حال الأمة الإسلامية هو الموت..
أنت تنتظر المدد من أرض ميتة! قد ماتت الأرض وأصبحت صحراء جرداء. وكان حديث هذا الشخص المسن يائسًا جدًّا؛ أصاب كل الجالسين بخيبة أمل؛ وأخذ الإمام الميكرفون مرة أخرى مبتسمًا بسمته المعتاد وقال: يا إخواني، هل تدرون من المتكلم؟ هو من أعيان المسجد الأقصى الشريف، هذا الرجل من عائلة مليئة بالعلماء والمشايخ والفضلاء، نحن نرى الحريق من بعيد ونقرأ من الصحف، نراه في الصور فقط! لكن هذا الشيخ جاء من داخل الحريق نفسه، وكما يقال: النار تحرق حيث حلت، فالشيخ مهموم لأن ما رآه لم يره أحد، لقد رأوا الذل من استيلاء اليهود على القدس. نعرف أن اليهود هم من قتل الأنبياء على مر التاريخ، وأسالوا دماءهم المباركة؛ فهم يهددون البلاد كلها ويدمرون كل مكان ينزلون فيه! وها نحن نرى في الأفق أيامهم السوداء وما خفي كان أعظم.

 

لماذا نجاهد؟

 

بينما الشيخ يتحدث بحرقة؛ قلت في نفسي: أجيب عليه بآية كريمة؟ أم ماذا أقول له؟ فألهمني الله هذه الآية: بسم الله الرحمن الرحيم: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) (الأعراف:164)؛ ولو أردنا أن نوضح معنى هذه الآية فنقول: كان في السابق قوم يعملون في سبيل الله ويتبعون هدي النبي في دعوة قومهم إلى الله تعالى؛ فأصاب بعضهم اليأس والقنوط وقالوا: “لقد نصحنا هؤلاء كثيراً، ولكنهم لا يؤمنون؛ فلماذا ننصحهم ونعظهم؟ إنهم استحقوا هلاك الله وعذابه! فلا تعظوا هؤلاء الغافلين الجاحدين”. فقام هؤلاء المجاهدون وأجابوهم: (قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف: 164)، فنحن نعمل حتى نجد ما نعذر به أنفسنا عندما نقف أمام الله تعالى، نحن نعمل حتى نقول لله عز وجل: عملنا واجتهدنا وقاومنا وفعلنا ما بوسعنا؛ فلذا نحن نتعب ونجاهد في هذا الزمان العصيب.

 

إمام أُوتي الحكمة

 

بعد كلمات الإمام أخذ الرجل المسن الميكروفون مرة أخرى وقال: يا ولدي، يا حسن البنَّا؛ يا أسد! لقد أسرتني بفضيلتك وأحببتك منذ طفولتك..

 

يا ولدي، يا حبيبي يا حسن البنَّا، كما استشهدت أنت بالقرآن فأنا أقول من القرآن أيضًاً: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة:269)، يا ولدي، قد وهبك الله هذه الحكمة، وأزلت ما في فؤادي من يأس، أنا معك.. فاستمر في كلامك وأنا أسمع لك مع إخواني. خبر وفاته: توفي البنَّا في القاهرة عام 1949م؛ حيث قتل بست رصاصات..

 

استشهد ودماؤه تسيل من مكان إصاباته. كنت وقتها في المدينة المنورة، وقد لا تصدقوني لو قلت: إنني لم أحزن حين سمعت خبر وفاة أبي وأمي بقدر ما حزنت عندما سمعت خبر استشهاد الإمام! لأنهما أبي وأمي فحسب؛ أما الإمام البنَّا فقد كان أبًا معنويًّا لملايين الشباب!.

 

أنا وهو في الرؤيا

 

ورأيت في تلك الليلة رؤيا أني في المحشر، وكانت هناك حشود وضيق من الازدحام الذي لا يمكنني وصفه، وكانت كل هذه الحشود تنتظر قطاراً سيذهبون به للمحشر! وأثناء هذا الازدحام الشديد سمعنا أصواتاً تقول: “أتى القطار!”، وبعدها رُؤي القطار وهو يطلق أصواته ويخرج الدخان، وكنت في اضطراب شديد وقلت: يا رب، كيف لي أن أركب هذا القطار في هذا الازدحام الشديد؟ وكيف يمكنني النجاة؟ وكنت في معاناة شديدة! وجدت نفسي فجأة على محطة القطار، وقف القطار ورأيت الإمام حسن البنا متعمماً، وله لحية سوداء وعليه عباءة بنية اللون مصنوعة من صوف الجمال، ومد لي يده فقفزت إلى القطار وأخذني إلى جواره ولفني بعباءته وذهبنا مع بعضنا بعضاً. استيقظت وأخذت وقتاً طويلاً حتى استوعبت الواقع، وقلت: “هذا الرجل الذي أحببته ومات شهيدًا في سبيل دعوته سوف يشفع لي يوم القيامة”، وظللت صامتًا طويلاً!.

 

الرؤيا الثانية

 

 وبعد أيام رأيت رؤيا أخرى متعلقة بالإمام البنَّا، كان يلقي خطاباً في أحد الأماكن، والتقينا بعد إنهاء خطابه وسأل عني وعن أحوالي وقال لي: هل تعمل؟ فقلت له: أنتظر دعاءكم، فدعا لي: وفقك الله، وقوى إيمانك، ونور حياتك بنور القرآن. ونظرت فإذا ياقة قميصه مقطوعة، فأخرجت من جيبي إبرةً وحِكتُ هذا القطع، ثم استيقظت!.

----------------
 
* باحث مصري مقيم في تركيا

المصدر: مجلة المجتمع