بعدما احتوت سجون عبد الناصر جماعة الإخوان عن بكرة أبيها بعد أكتوبر 1954، انفرد الزعيم بحكم مصر وقال للشعب: ليس لكم إله غيري.. وظن الناس ألا عودة للإخوان وشُعبهم وجهادهم، وظن الإخوان أنفسهم -من داخل السجون- أن الإسلام نفسه قد تم استئصاله على يد الديكتاتور ونظامه العلمانى التابع لأعداء الإسلام والمسلمين، وبينما الحال هكذا إذ تم الإعلان عن تنظيم جديد للإخوان بزعامة الشهيد سيد قطب.

 

لقد دارت رحى التعذيب، منذ أن أمسكوا بأول خيط للتنظيم، فلم تتوقف حتى هلك الزعيم..

وسيق الذين آمنوا إلى السجن الحربي، فرادى ومجموعات، وكان النظام الهالك قد اكتسب خبرات عظيمة فى تعذيب الإخوان وإذلالهم، فكانت المحنة قاسية والموقف أشد إيلامًا، ولم يكن هناك مجال لقانون، بل ديس القانون وديست القيم، ونعق البوم الناصرى فوق جثث وعلى جروح الإخوان.

 

لقد علقوا على أعواد المشانق ثلاثة من خيرة الإخوان، على رأسهم المفكر والأديب الشهيد سيد قطب، الذى أصر الطاغية -بحقده الأسود- على قتله، فلم تشفع عنده مكانته، ولم يشفع له مرضه، ولم تشفع الوساطات الكبيرة لإلغاء حكم الإعدام، فتم تنفيذ الحكم صباح يوم من أيام الشؤم على عبد الناصر وحاشيته، ومعه شهيدان آخران هما محمد يوسف هواش، عبد الفتاح إسماعيل، وذلك يوم 29/8/1966.

 

وقد تنوعت وسائل تعذيب الإخوان هذه المرة، طبقًا لطبيعة الاعترافات المطلوبة ودرجة سرعتها.. كذلك اختلفت وسائل التعذيب من شخص إلى آخر.. وتنقسم هذه الوسائل إلي:

 

-  التعذيب النفسي: هو محاولة إلحاق أكبر قدر من الإهانة الشخصية بالإنسان المطلوب تعذيبه، لعله ينهار سريعًا، ويكفيهم مؤنة التعذيب البدني، ووسائله كثيرة منها:- لألفاظ البذيئة والمهينة: التى تطعن فى شرف الشخص أو شرف زوجته أو أمه أو أبيه بصورة فى غاية الوقاحة التى لم يتعود عليها الشخص، وخصوصًا المتدين، وهذه تتحول إلى روتين تقليدى فى السجن، فالألفاظ البذيئة هى الوجبة التى تتكرر عشرات المرات فى اليوم.

 

- الإهانة العملية: وتتمثل فى عدة إجراءات تقليدية فى السجن الحربي.. فعند الاستقبال يتم تمزيق ملابس البعض، وفور وصوله إلى مكاتب التحقيق يمزق القميص.. والبنطلون، وكثيرًا ما يقف المرء بالملابس الداخلية فقط أو حتى يخلع الفانلة ويبقى بما يستر العورتين.. وإذا أُريد مزيد من التعذيب فأحيانًا يقف المرء عاريا كما ولدته أمه.

 

من هذه الوسائل أيضًا: خلع الرتب العسكرية إن كان ضابطـًا، المشى حافى القدمين طوال فترة التعذيب،  الضرب على (القفا)، حلق شعر الرأس كله أو حلق جهة من اللحية وترك الجهة الأخري، وأحيانًا تُنتف اللحية بالملقاط أو الكماشة، حلق نصف الشارب وترك النصف الآخر،  الحرق بالنار لجهة من اللحية وترك الجهة الأخري، محاولة الاعتداء الجنسي، اعتقال الزوجات.. أو البنات.. أو الأمهات.. وضربهن وإهانتهن.. وكان هذا أشد ما يؤلم الإنسان ويحطم نفسه تحطيمًا.

 

- التعذيب البدني:

- الضرب بالكرباج السوداني: وهذا الكرباج (السوط) يتم وضعه فى الزيت كى يصير لينًا سهل الالتواء فى يد الجلاد.. وفى عام (1954م) كان المراد تعذيبه يخلع ملابسه عدا ما يستر العورة ويحتضن بيديه تمثالا يسمى «العروسة» ويعطى ظهره للجلادين الذين يجلدونه بالسوط (الكرباج) على كل أنحاء جسمه ابتداء من رقبته حتى رجليه.. أما فى عام (1965م) فقد تغير أسلوب التعذيب من العروسة إلى الفلكة، وفيها تُضم اليدان والرجلان ويوثقان بحبل ويعلق الحبل على ماسورة حديدية فيتدلى الرأس والبدن إلى أسفل وترتفع اليدان والرجلان إلى أعلى ويتم ضرب الرجلين واليدين بالسوط. وكثيرًا ما يتناوب شخصان أو أربعة على ضرب الأخ المراد تعذيبه.. وعادة ما يصرخ الإنسان من شدة الألم فيضع أحد العساكر حذاءه فى فمه حتى لا يزعجهم صراخه.

 

أما أسلوب التعذيب فهو الضرب أولا بدون أسئلة حتى تقول كل ما عندك.. فإن تطابق مع ما عندهم.. أو مع ما يريدونه من معلومات توقف الضرب، وإلا استمر التعذيب.. بلا حدود..

 

- الكلاب المدربة: ويتم تعذيب الأخ بإصدار أوامر لهذه الكلاب المدربة لكى تغرز أنيابها فى لحمه وفى رجليه وظهره وبطنه وتعضه عضًا مؤلمًا، والعسكرى يمسك الكلاب المدربة بحبل..  ويتكرر عض الكلاب فى منظر رهيب.

 

- المبيت مع الكلاب: توضع سبعة كلاب فى زنزانة صغيرة 180 سم * 50،3 متر، ويظل الأخ يبيت مع الكلاب لمدة تصل إلى ثلاثة أسابيع، وفى هذه الأيام بلياليها يتم تجويع الكلاب فتظل تصرخ... فلا ينام الأخ ولا يأكل. وكلما قذفوا له رغيفًا فى اليوم التقطته الكلاب.. أما الشراب فالماء تشرب منه الكلاب قبل الأخ..

 

- الزنزانة رقم 9: وهى زنزانة مثل باقى الزنازين لكن لها سور يحيط بها ارتفاعه حوالى نصف متر.. وهى مملوءة بالماء العطن، وبعد التعذيب الشديد، إن لم يعترف الأخ كما يريدون، يتم وضعه بملابسه فى هذه الزنزانة ويبيت فيها.. فإن نام غرق ومات.. وإن قعد بلغ الماء فاه.. وإن قام واقفًا فهو لا يستطيع الوقوف طوال الليل.. وهو يشرب من هذا الماء ويبول فيه.. وهناك عسكرى واقف على باب الزنزانة من الخارج طوال الليل يقرع عليه الباب حتى لا ينام.. إن وقع مغشيا عليه أيقظه العسكري، وهكذا يظل يتعذب عدة أيام بهذه الوسيلة الشيطانية، وهى من الوسائل الرهيبة التى تُفقد الإنسان توازنه من كثرة الوقوف، وانعدام النوم، والرائحة العطنة، ومنع الماء والطعام.

 

- الدفن حيًّا: هذه الوسيلة ذكرها الأستاذ أحمد عبد المجيد فى كتابه (الإخوان وعبدالناصر) ص (137).. فكتب تحت عنوان مشهد مثير: «فى إحدى ليالى سبتمبر 1965م، رأيت أحد الإخوان الذين يقومون بتعذيبه وفهمت منهم أنه من العسكريين، وعلى صلة بالأخ الأستاذ أحمد عادل كمال، ويشرف على تعذيب هذا الأخ مدير السجن الحربى حمزة البسيوني، يساعده فى ذلك العميد سعد زغلول عبدالكريم، ولما لم تفلح معه وسائل التعذيب التقليدية أمر اللواء حمزة بإنزاله فى حفرة خندق كانت قريبة، ودفنه حيا، وبدأ الجنود فى ردم الحفرة عليه وهو فى داخلها، ولا أعلم ما الذى تم بعدها، حيث أُخذت إلى الزنزانة قبل أن أرى باقى المشهد الحزين».

 

- التعذيب الروتيني:

- فى أول ليلة يدخل الأخ الزنزانة -ليس فيها أنوار طبعًا ولكن شعاعًا بسيطًا يدخل خلسة من ثقبٍ قطره خمسة سنتيمترات فى باب الزنزانة.. فإذا به يرى جيوش «البق».. تسرح وتمرح فى الزنزانة.

 

- توجد قصرية من الكاوتش من بقايا الإنجليز وهى عبارة عن إناء دائرى مصنوع من الكاوتش السميك قطرها العلوى المفتوح حوالى 40 سم وقطرها السفلى (القاع) حوالى 30 سم وارتفاعها حوالى 30 سم أيضًا، يتبول الأخ فيها ليلا.. وفى الصباح يتخلص من البول فى دورة المياه ثم يملؤها بالماء بعد غسلها (إن استطاع) ليشرب من هذا الماء.. وهذا الماء ممزوج برائحة الكاوتش ورائحة البول فى آن واحد.

 

- هناك عساكر أمثال (سامبو)، و(زغلول) حينما تفتح الزنزانة فإن أحدهم يتطوع بالصفع على الوجه أو الركل (الشلوت).. أما عن الشتائم فحدث ولا حرج.. وبعضهم يحمل معه كرباجًا يضرب به كل من يقابله.

 

- لا توجد دورة مياه فى الزنزانة.

- المشي في السجن حافي القدمين لمدة ستة أشهر على الأقل حتى تنتهى التحقيقات.

- تفتح الزنازين ويحمل كل فرد «القصرية» بها البول وأحيانًا البراز، ثم يجرى بها فى طابور تحت ضرب السياط بسرعة حتى دورة المياه، والسعيد من استطاع البقاء فى دورة المياه (الحمام البلدي) دقيقة واحدة.

 

- الطعام فى السجن لا يمكن وصفه..

- الزنزانة لا تُفتح إلا خمس دقائق كل يوم.

- توجد فى السجن فسقية (حوض) ضلعه متران بعمق حوالى متر ونصف المتر.. تشرب منه الكلاب.. ثم قناة (مجري) تصب فى دورة المياه.. ويشرب المسجون من هذه القناة التى هى غالبًا من سؤر الكلاب.

 

- طبعًا لا توجد مراتب ولا وسائد (مخدات)، فالمخدة هى يدك أو الحذاء إن تركوه لك.. كما لا توجد مصاحف ولا جرائد ولا مجلات ولا كتب.

 

- ممنوع غسل الملابس، إلا يوم الجمعة، لمدة خمس دقائق على الأكثر، فضلا عن عدم وجود غيارات أخري.. ولقد استمر هذا الوضع ستة أشهر كاملة، من أول أغسطس 1965م حتى فبراير 1966م.

 

لقد صدرت أحكام ضد ما يقرب من 400 أخ، تراوحت بين المؤبد والثلاث سنوات.. لـكن عندما حـل مـوعد خروج أصـحـاب المـدد الصغيرة، لـم يـخـرج أحـد، لـقـد استبقاهم عبد الناصر فى سجونه، لعمى بصيرته، كى يدعو عليه وعلى أعوانه، حتى إذا أخذه الله صارت هذه الدعوات نارًا على روحه وجسده، حتى يبعثه الله يوم الحساب، فيقتص منه هؤلاء، كلٌ حسب ما ناله من التعذيب والإيذاء.