تداولت وسائل الإعلام مؤخرا بيانات تتعلق بجماعة الإخوان المسلمين يقول فيها أصحابها أنه قد تم إجراء تشكيلات وهيئات جديدة خاصة بالجماعة داخل مصر مع ما يقال من تكليفات جديدة في الداخل والخارج، ورغم التصريح الواضح من المتحدث الرسمي للجماعة الأخ الدكتور طلعت فهمي الذي أدلى به يوم 19/12/2016م عن إعفاء الأخ المتحدث الذي بدأ هذه التصريحات من مهامه قبلها بعام كامل، فما زالت وسائل الإعلام تواصل نشر هذه البيانات ونسبتها إلى الجماعة، وما زالت الكثير من الأسئلة تتوالى أيضا من البعض لتبيان حقيقة الأمور.

ورغم قسوة الأحداث الاستثنائية والمؤلمة التي تعيشها مصر والتي صاحبت الانقلاب العسكري في 3/7/2013م وقبله بشهور، فإن الجماعة وبعد أن أصبحت في عين العاصفة تجد نفسها مضطرة إلى تبيان بعض الحقائق لتذكير الجميع بها مع ما يصاحبها من آلام لدرء فتنة لا يعلم غير الله سبحانه وتعالى إلى أين تسير بالدعوة وبالوطن كله من مخاطر إذا استمرت.

الأولى: نؤكد دائما على أننا تجمع بشري، ولسنا مجموعة من الملائكة، والاختلاف في الرأي حول المواقف والأحداث مظهر من مظاهر الصحة ما دام لم يخرج عن قواعد الحلال والحرام وعن ثوابت جماعة الإخوان المسلمين.

ثانيا: أن أي اختلاف في وجهات النظر داخل الجماعة يتم حسمه بما تنتهي إليه الشورى وتعلن الجماعة اعتماده ليصبح على الجميع الالتزام به، وهو أمر لا تنفرد به جماعة الإخوان المسلمين.

ثالثا: أي خروج عن هذا الالتزام حتى ولو كان يدور على أمر الاجتهاد فيه كان بين الحسن والأحسن، وبإصرار الذي لا يلتزم على الخروج فإنه يكون قد أعفى نفسه من الانتساب للجماعة، والجميع يعلم أن المتأخر عن الصف يتساوى تماما كالمتقدم عنه طبقا للآية الكريمة في سورة الصف (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) وكما هو مطلوب في صلاة الجماعة بإيحاءات استقامة الصف الرباني دون اعوجاج.

الجميع يعلم أنه بعد الانقلاب العسكري وما حدث في رابعة والمنصة والنهضة وغيرها من المذابح وتجاوزات فاجرة بالاعتقالات والمطاردات لإخوة وأخوات واختطاف لأبرياء يتم تصفية بعضهم على دفعات باتهامات باطلة، كانت رؤية الجماعة وسياستها هي استمرار لمواجهة أمثال هذه الجرائم التي واجهتها منذ قيامها، وعبّر عنها وبعد أن أصبحت مؤصلة شرعيا وسياسيا فضيلة المرشد العام الدكتور محمد بديع بقوله (سلميتنا أقوى من الرصاص).

وبالرغم من بعض التجاوزات التي ترتبت على جرائم وإجراءات العسكر الفاجرة بحق الأبرياء من الرجال والنساء والشيوخ التي أنتجت ردود فعل بشرية لا تعتمدها الجماعة، إلا أنها لم تتوانى عن تأكيد وترشيد مسار العمل، مؤكدة على ثوابت نهجها وصحيح فكرها المعتمد الذي بنته على فهمها لدينها والتزامها بنهج قدوتها صلى الله عليه وسلم، ليس إنكارا لذروة سنام الإسلام وهي فريضة الجهاد التي لها أحكامها، ولكن فيما نعيشه من تدافع داخل حدود الوطن الواحد والذي يمكن أن نلخصه بما جاء في تراث العالم المجتهد ابن تيمية عليه رحمة الله (ليس العاقل من يعلم الخير من الشر فقط، بل يجب أن يعلم خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات).

رابعا: الكل يعلم أن سياسة العسكر الذين توالوا على مصر منذ عام 1952م هي محاولات اكتساب شرعيتهم عن طريق إشاعة عدم الاستقرار كما فعل كبيرهم جمال عبد الناصر بتفجير بعض القنابل عام 1954م في أماكن متفرقة من القاهرة عندما كاد أن يفقد منصبه وفعل أمثالها أو أشد منها من جاء بعده، وسار على نهجهم الانقلابي السفاح بعد 3/7/2013م وهو يأمل أن يجد من ردود أفعاله ما تكتمل به مؤامرته، مع عدم التخلي عن سياسة العسكر الدائمة بأن يفعلوها هم بأنفسهم إن لم يفعلها غيرهم لمحاربة معارضيهم باتهامات ظالمة وقضاء أشد ظلما.

خامسا: الحقيقة حول ثلاثة من شهداء الجماعة السابقين .. القاضي الفقيه عبد القادر عودة .. ثم سيد قطب .. ثم محمد كمال، والتي يغفلها البعض هي أن الأول وهو صاحب مقولة (ليس هناك فتنة أشد من الحكم بغير ما أنزل الله)، كان أيضا هو الذي أبى عندما كان المسؤول عن الجماعة أثناء اعتقالات يناير 1954م أن يسير في خيار الدماء التي أرادها العسكر وقتها لتقديره ورؤيته للمصلحة الشرعية وأنهم لا يبالون إذا انتهى الوطن إلى خراب، وبعدها أعدمه المجرمون لهذا الموقف.

وبالنسبة للأستاذ سيد قطب صاحب الظلال والمعالم وغيرهما من تراث العمل الإسلامي وعندما أوكل إليه المرشد الثاني للجماعة الأستاذ حسن الهضيبي مسؤولية العمل بعد خروجه من السجن عام 1964م فقد أنكر على بعض الشباب رغبتهم باغتيال جمال عبد الناصر وكان منهم الحارس الشخصي له على أساس أن هذا ليس هو خيار الدعوة الذي يحرص على تحصيل المصالح وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنما خيارها هو السهر على الدعوة والتبشير بها بين الناس لتكوين الجيل المؤمن القادر على تحمل أعبائها ومواجهة تشويهها لحرف الناس عن صحيح دينهم، وليعيد المجرمون تكرار ما فعلوه مع عبد القادر عودة بسبب هذا الموقف.

وأما عن محمد كمال الذي تعهد أجيالا بالتربية فالكل يعلم أنه قبل اغتياله فقد قام بالانسحاب من المشهد واعتزل الدنيا كلها فلم يتركوه كما لم يتركوا من كان قبله من الشهداء.

وبالتأكيد فإن الدنيا كلها ما زال في ذاكرتها لماذا قتلوا الرجل القرآني مؤسس هذه الدعوة حسن البنا بعد تبرؤه من مقتل النقراشي الذي قام بحل الجماعة واعتقال أعضائها، وكتب براءته من الحادث بأشجع وأقسى العبارات (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين) لعل الجميع يعي درس أن هؤلاء المجرمين لا يرضون بمن يعي حقيقة المؤامرة ولا تجذبه الأضواء الخادعة التي تنبعث نيرانها ولا يكون كالفراش الذي تستهويه فتحرقه.

وبهذا الفكر استمرت الجماعة في سيرها وانتشارها والدفاع عن صحيح الدين وما كان يراد به في خمسينيات وستينيات القرن الماضي دون تراجع رغم الدماء التي سالت في مجراها، ويقف العالم كله الآن تقريبا متحدا في حربها أو على الوجه الصحيح محاربا لفكرها بعد أن تكاتفوا جميعا على اختلاف ألوانهم لإيصال السفاح الانقلابي إلى رئاسة البلد المنكوب ليواصل مسيرة من سبقوه.

ورجاء من قلب مخلص للجميع لا تحمّلوا السابقين وهم بين يدي الله ما لم يكونوا يرجونه من جهادهم وبذلهم.

سادسا: لسنا في مجال الحديث عن فكر الجماعة وتواصل التجديد في فكرها وعملها مع مقتضيات كل عصر مرت به وهو ما أبقاها بفضل الله سبحانه وحده حتى الآن قائمة على أمرها تخطئ وتصيب، وقد تكون الجماعة قد غفلت عن ضعف الشبكات الاجتماعية والسياسية التي نشأت في مجتمع يحكمه العسكر ويسيطرون عليه وتلك التي التفت حول نشاطات الجماعة المختلفة في مواجهة أنظمة الدولة العميقة والعتيقة والتي عاشت على طاعة الفرعون وضلال سحرته، ومع ذلك فقد تعالت الجماعة على جراحها حرصا على دينها تجردا وصبرا وعملا بما تعتقد أنه الصحيح من دينها لتبقى الأخطاء بأمر الله بعيدا عن أن تقع في محارم الله.

سابعا: لا نجادل في مقولة أن (الحرب تُحسم قبل أن تبدأ) وهو توصيف صحيح لما حدث بين دولة العسكر في مصر وشرفاء هذا البلد والتي استعد لها السفاحون بمجرد ظهور إرهاصاتها، وحسب الشرفاء أنهم وبما يحملون من آلام وابتلاء كانوا السبب في كشف أركان وأعمدة الدولة العميقة التي ظل العسكر يبنونها في الخفاء لمدة أكثر من ستين عاما ومنها ترويضها للمؤسسات الدينية التي غطت بفتاواها باسم الدين رصاصات الغدر التي انطلقت في صدور من كانوا يقولون عنهم أنهم يتاجرون بالدين وأنهم يخلطون الدين بالسياسة.

ثم لتأتي النقطة الفاصلة مثل التي وصل إليها الفرعون عندما تحدى رسول الله موسى عليه السلام في وجود الله سبحانه، لتكون نهايته وهو يغرق أمام معجزة أعمت بصيرته وظن أن فيها النجاة واللحاق بجيشه بموسى عليه الصلاة والسلام وقومه، وعندها فقط ينطق بما عجز عن نطقه قبل الغرق (آمنت برب موسى وهارون) ولتأتي الإجابة الإلهية (اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) .. ومع كل ذلك فلم يتعظ كل الفراعين بعده، وصدق الله العظيم الذي جاء في كتابه عن الطواغيث الذين يتوالون دون اتعاظ كما جاء في سورة الذاريات التي عبّر عنها القرآن الكريم بعد ذكر قوم لوط وفرعون وعاد وثمود وقوم نوح ودور الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا دعاةً لله في أقوامهم ولم يكونوا في مجال منافسة على ملك أو حكم، فوصف رب العزة سبحانه وتعالى حال الطواغيث الذين لم يستجيبوا لأمر الله بقوله: (أتواصوا به بل هم قوم طاغون).

ثامنا: نحن أبناء جماعة رباطنا بفضل الله سبحانه هو الأخوة فيه، تتوالى فيها الأجيال بسنة الله عز وجل في الخلق، ونقرأ في سورة الحشر قوله تعالى عن الجيل الأول في الإسلام ثم الأجيال التي تليه (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم).

رباط نعض عليه بالنواجذ آملين أن يشملنا الله جميعا بهذا الفضل الرباني، ويعز علينا الآن أن نقول ونحن في أتون معركة تستهدف الدين نفسه وتستهدف كل مقدرات الوطن قبل أن تستهدف الجماعة، أن بعض ثوابت جماعة الإخوان المسلمين قد غفلها بعضنا معرضا عن رسالة من تراث الإمام الشهيد تركها لإخوانه قبل استشهاده وفي أتون محنة طاغية ظالمة نختم بها:

“لقد عاهدنا الله أن نكون لهذه الدعوة .. وسنظل لها … ولا سبيل لنا إلا أن نقبل على أنفسنا بالتوكل وعلى الناس بالدعوة .. ولله بعد ذلك عاقبة الأمور .. سأسير في الطريق التي سلكتها من قبل إلى غايتها أو أموت في وسطها، فمن شاء أن يرافقني فيها فإنه مني وشكرا لله سبحانه أولا وشكرا له، ومن عصاني وأبى إلا الفورة الوقتية والجماعة العاطفية والتهور الذي أعتقد أنه لا يجدي، فإن الله غفور رحيم، ولينصرف عني إلى حيث يشاء، ولعله أهدى مني سبيلا وأقوم طريقا، ولكني لا أريد أن أحمل تبعة طريق لا أثق بفائدتها لا لصاحبها .. ولا لدعوته .. ولا للناس“.

أيها الإخوة والأخوات ..

فروا إلى الله فهو سبحانه الغاية وهو الهدف وهو صاحب الكون ومجريه ولا حول ولا قوة إلا به.

والله أكبر ولله الحمد

 نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين