فلما كانت الليلة السابعة والثمانون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة قالت فقرزاد:

بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، أن القرندلي الثاني لما حكى حكايته، وبكى وأبكى صحابته، قال له الخليفة: ملِّس على رأسك وروّح، فقال: لا أروّح حتى أسمع خبر القرندلي الثالث.

 

فتقدم القرندلي الثالث وقال: أما أنا ما ولدت أعور ولي حكاية عجيبة، لو كُتبت أو نُقشت نِقاشة، على دسكٍ أو فلاشة؛ لكانت عبرةً لمن اعتبر، أو من كان عنده فكر أو نظر!!

 

فلم أكن يومًا من الأيام بالصعلوك، ولكنني من سلالة الأمراء والملوك، غير أنه تبدَّل الأحوال، على الليالي والرجال، سنة لله لا تتغير، وعلى المرء أن يسلم بذلك ولا يكفر.

 

فلما ضاقت بنا المعيشة، وتقاذفتنا المصائب كالريشة.. استطاع أبي بوساطة أحد الكبراء، أن يحصل لأختي على فرصة عمل محترمة جدًّا في بيت أحد الأمراء، في مملكة قريبة ثرية، وقد قامت الجهات المعنية، بتوثيق العقد وأخذ حصتها الرسمية.

 

ولكن تناهَى إلى مسامعي من بعض الخوارج والمارقين، كلام مخجل مشين، وهو أن أختي ابنة الملوك والعلماء، ذهبت لتكون جاريةً مع الجواري والإماء!! ففارت في عروقي الدماء، وهرولتُ خلفها ولحقتُ بها في الميناء، ولأن النفس بالسوء أمارة، ركبت معها العبَّارة، لأحكم بنفسي على طبيعة العمل الذي ذهبت إليه، قبل أن أفعل شيئًا أندم عليه.

 

فلما كانت ليلة من الليالي هبَّت علينا رياح رهيبة، وهاج البحر علينا هيجاتٌ عجيبةٌ، وماهي إلا لحظات حتى تحطَّمت العبَّارة، فمنا من غرق، ومنا من نجا وأكثرنا غرق، ومن نجا توَّهته الأمواج، واختلاف الرياح.

 

أما أنا يا سيدي فنجاني الله تعالى لما يريد من شقاوتي، وعذابي وبلوتي، فطلعت على لوح من الألواح، قذفني عند الصباح، فإذا أنا على جزيرة صغيرة، ورأيت قصرًا بابه من النحاس الأصفر، فقصدته ووقفت مبهورًا أتأمَّله وأنظر، حتى أقبل عشرة من الشباب، لابسين الأثواب المفتخرة، كلهم عور بالعين اليمنى، ومعهم شيخ كبير، فلما رأوني سلموا عليَّ وسألوني عن حالي، فحكيت لهم ما جرى لي، فأخذوني وأطلعوني القصر، وقالوا: لا تسأل عن أحوالنا مهما كان الأمر!!

 

ثم جاءوا بالشراب والطعام، فأكلنا وشربنا وطاب معهم المقام، إلى أن ذهب أكثر الليل قال الشباب للشيخ: ما تقدم لنا راتبنا؟!

 

فقال: حبًّا وكرامةً.. ثم قام ودخل مخدعه وغاب وعاد وعلى رأسه عشرة أطباق، فقدم لكل شاب طبقًا، فكشفوا أغطية الأطباق، فبان من تحتها رماد، ودق فحم وسواد، فشمر الشباب السواعد، وأخذوا في البكاء والنحيب وتسخيم وجوههم، وتمزيق أثوابهم، ولطم خدودهم، وصاروا يقولون: كنا قاعدين بطولنا، ما خلانا فضولنا!!

 

ولم يزالوا على هذا إلى قرب الصبح، فقام الشيخ وسخن لهم الماء، فغسلوا وجوههم وغيَّر كل منهم الرداء، واستمروا على هذا الحال وأنا قاعد عندهم مدة شهر؛ فلم أستطع احتمال ما أرى وأصررت على معرفة السرّ.

 

فقالوا: كتمان سرنا أصلح، ولكن محاولتهم معي لم تفلح، قلت: لا بد أن تخبروني، أوْ دَعوني أسافر واتركوني، فقالوا: إذا عرفت سرنا، صرت- حتمًا- مثلنا!!

 

وعمدوا إلى كبش ذبحوه، ثم أخذوا جلده بعدما سلخوه؛ وقالوا: ادخل في هذا الجلد وخيّطه عليك، فإنه يأتيك طير اسمه الرخ، يشيلك ويحطك على جبل، فشُقَّ الجلد واخرج منه، فيخاف منك الطير ويبعد عنك، فامشِ نصف نهار تلقَ قدَّامك قصرًا غريب الصفة، فادخل فيه وقد بلغت مناك!! فدخولنا هو سبب سخامة وجوهنا!!

 

ففرحت بذلك وفعلت ما قالوا، حتى دخلت القصر، قبيل أذان العصر، فرأيت شيخًا تبدو عليه علامات الحكمة والوقار، ومعرفة الكثير من الأسرار، فقد استقبلني بشوق وحرارة، وقال: مرحبًا بمن نجَّاهُ الله من العبّاَرة!! فلما أبديت دهشتي لمعرفته حكايتي وقصتي؛ قال: الآن عليك أن تودّع كل ما فات، فالحزن والهمّ قد ولَّى ومات، هذا القصر ملك خالص لك، فيه أربعون بابًا افتح منها ما تشاء، في الصباح أو المساء، ولكن الحذر أن تفتح الباب الأربعين، فإنه محرم عليك إلى يوم الدين، وفي فتحه فراقك للنعمة والقصر والجزيرة!!

 

فقلت: والله لا أفتحه أبدًا، فودعني وتركني وحيدًا، فلما قرب المساء فتحتُ الباب الأول ودخلت، فوجدت بيتًا كأنه الجنة، فيه بستان وأزهار، وأثمار وأطيار، وخيول عربية تأخذ بالألباب، ولكني وجدت مكتوبًا على الباب: "بيت الكسل"! ففرحتُ وهتفت: مرحبًا بالكسل، لقد زهقت من العمل!

 

وفي الليلة الثانية فتحت الباب الثاني، فوجدت ما أذهلني من الأثاث والرياش، والجواهر والأحجار الكريمة، وكان مكتوبًا على الباب: "باب السلبية"! فضحكت وقلت: وماذا أخذتُ من الإيجابية؟! الآن أنا ملك عصري، وهذه الأموال ليست لأحد غيري!!

 

ومضت تسعة وثلاثون يومًا وقد تمتعت بالأبواب كلها إلا الباب الذي مُنعت من فتحه، وتمتعت بأبواب الفهلوة، والتزوير، والرشاوى، والجهل، والفقر، والغباء، والفساد، والبيروقراطية، والاستبداد.. إلخ
ولكن بقي خاطري مشتغلاً بهذا الباب الأربعين، ووسوس إليَّ الشيطان- لأجل شقاوتي- بأن أفتحه، فلم أجد صبرًا عن ذلك، رغم ما سبق من التحذير بالمهالك!! فلما فتحته وجدته مكتوبًا عليه: "باب الإصلاح"، وسمعت في التوِّ صوت الصراخ والنواح، الذي كانت تطلقه أختي قبل أن تفترسها في البحر الأسماك؛ وجاء وجه أبي من ناحية الشباك، وهو يداري دموعه عندما سلم أختي عقد العمل، وقال لها: اليوم ستودعين الفول والبصل، ولكن لا تنسي أنك تمثِّلين سمعة الوطن، فانتابتني حالة من البكاء والصراخ وأنا أصيح: لقد ذهبت أختي بلا ثمن!!

 

ووجدت جوادًا أدهمَ، كسواد الليل إذا أظلم، مشدودًا ملجمًا، سرجه من الذهب الأحمر، مكتوب عليه: "الانتخابات والشورى"!

 

فقلت في نفسي: إن هذا لا بد أن يكون له شأن عظيم، وسيوصلني إلى الطريق القويم، وأضلني الشيطان فأخرجته، ثم ركبته وبرجلي رفسته، فصهل بصوت كالرعد القاصف، وفتح جناحين وطار بي كالريح العاصف، وغاب عن الأنظار في جوّ السماء، ثم حطَّني على جزيرة بقرب الماء، ونشَّني بذيله على وجهي، فقلع عيني اليمنى وسيَّلها على خدي، وطار بعيدًا عني، فهِمْتُ على وجهي أبكي، فوجدت العشرة من الشباب العور؛ فقالوا: لا مرحبًا بك ولا أهلا!

 

فقلت: ها أنا قد صرت مثلكم وأشتهي، تعطوني طبقة السواد أسخم بها وجهي.

فقالوا: والله لا تجلس عندنا، واخرج من هنا.

فلما طردوني خرجت من عندهم حزين القلب، باكي العين أردد:

كنت قاعدًا بطولي، فما خلاني فضولي، وحلقت ذقني وشواربي، وطفت بلاد الله، وكتب الله لي السلامة حتى وصلت إلى بغداد في مساء هذه الليلة وقابلت هؤلاء الاثنين القرندلية!!

 

وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.