مضحك الأحاجي والألغاز:

لم تترك النادرة العربية بابًا من الأبواب المضحكة إلا ولجته بشكلٍ أو بآخر، ومن بين تلك الأبواب التي كان للنادرة السبق في الإضحاك من خلالها، مضحك الأحاجي والألغاز.. كما في النادرة التالية:

(قال "الأصمعي" : من ملح أحاديث الأعراب أنهم قالوا: كانت امرأة تُحاجي الرجال، فلا يكاد أحدٌ يغلبها، فأتاها جنيٌّ في صورةِ إنسان فقال لها: حاجيتُك.

فقالت له: قُلْ،

فقال: كادَ،

فقالت: كادَ العروسُ أن يكون ملكًا،

فقال: كادَ،

فقالت: كاد البيان أن يكون سِحْرًا،

فقال: كاد،

فقالت: كادَ المنتعِلُ أن يكون راكبًا،

فقال: كاد،

فقالت: كادَ المسافر أن يكون أسيرًا،

ثم ولَّى ليذهب، فقالت: حاجَيْتُكَ، فرجع

فقالت: عجبتُ،

فقال: عجبتُ من الحجارة لا يعظُم صغيرها، ولا يصغر كبيرها،

فقالت: عجبت،

فقال: عجبت من السَّبخَةِ لا يجفُّ ثارها، ولا ينبتُ مرعاها،…………………………..).

 

وعندما لم يستطع الجني مجاراتها، أو أراد هزيمتها أجابها بجوابٍ ماجن، خدش حياءها. (فاستحيتْ وتركت المحاجاة)، وهذا الأسلوب الوضيع الذي استخدم ضد هذه المرأة يدلُّ على براعتها التي لا يمكن هزيمتها بالطرق المشروعة الشريفة، فكان إسكات صوتها عن طريق أسطوري يتمثل في الجني، وعن طريق الفحش الذي يُذكرِّها بنقصها لأنها امرأة فكيف تهزم الرجال أو تجرأ عليهم!

 

وقد يأتي مضحك الأحاجي في صورة أخرى غير مباشرة: (قال "أبو الحسن": حدثني أعرابي كان ينزل بالبصرة قال: قدم أعرابي من البادية فأنزلته، وكان عندي دجاج كثير، ولي امرأة وابنان وابنتان منها، فقلت لامرأتي: بَادِري واشوي لنا دجاجةً وقدميها إلينا نتغدَّاها، فلما حضر الغداء، جلسنا جميعًا أنا وامرأتي وابناي وابنتاي والأعرابي.. قال: فدفعنا إليه الدجاجة فقلنا له: اقسِمها بيننا- نُريد بذلك أنْ نضحك منه- فقال: لا أُحسن القسمة، فإن رضيتم بقسمَتي قسمْتُها بينكم.. قلنا: فإنا نرضَى.. فأخذ رأس الدجاجة فقطعه، فناوَلنيهِ وقال: الرأس للرأس. وقطع الجناحين وقال: الجناحان للابنين. ثم قطع الساقين فقال: الساقان للابنتين، ثم قطع الزِّمِكَّى وقال: العجز للعُجُز، وقال: الزَّور للزائر، قال: فأخذ الدجاجة بأسرها وسخر بنا.

 

قال: فلما كان من الغد قلتُ لامرأتي: اشوي لنا خمس دجاجات.. فلما حضر الغداء. قلتُ: اقسم بيننا قال: إني أظن أنكم وجَدْتم في أنفسكمَ. قلنا: لا! لم نجد في أنفسنا فاقسم. قال أقسِمُ شفعًا أو وترًا، قلنا: اقسم وترًا. قال: أنت وامرأتك ودَجَاجة ثلاثة. ثم رمىَ إلينا بدجاجة. ثم قال: وابناك ودجاجة ثلاثة. ثم رمى إليهما بدجاجة، ثم قال: وابنتاك ودجاجة ثلاثة. ثم رمىَ إليهما بدجاجة، ثم قال: أنا ودجاجتان ثلاثة، وأخذ دجاجتين وسخر بنا.

 

قال: فرآنا ونحن ننظر إلى دجاجتيه فقال: ما تنظرون! لعلكم كرهتم قسمتي الوتر لا يجئ إلا هكذا، فهل لكم في قسمة الشفع؟ قلنا: نعم. فضمَّهنَّ إليه، ثم قال: أنت وابناك ودجاجة أربعة. ورمَى إلينا بدجاجة، ثم قال: والعجوز وابنتاها ودجاجة أربعة، ورمى إليهن بدجاجة، ثم قال: أنا وثلاث دجاجات أربعة وضم إليه الثلاث، ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم لك الحمد، أنت فهّمتنيها!).

 

مضحك التهكم الاجتماعي:

لقد تعرَّضت النادرة العربية للكثير من السجايا الإنسانية المرفوضة اجتماعيًّا، كالبخل والجهل والحمق... إلخ ونضيف هنا بعض القضايا الاجتماعية التي تعرَّضت لها النادرة، وهي جديرة بالوقوف عليها لطرافتها وأصالتها في الأدب الفكاهي العربي، ومن ذلك:

 

(قال "الجمَّاز" مات إنسان غَمَّاز فرآه جارٌ له في المنام فقال له: ما فعل ربك بك؟ فقال له: أنا بخير هاهنا بين يَدَيْ ملكٍ أتخفف له وأسعى بين يديه في أموره، وأُبْرد أخبار الكفار إليه، قال الجماز: وإذا به.. هناك أيضًا غماز).

 

لقد انتقل المضحك من الاستهزاء بالبخل والحمـق إلى قضايـا معاصـرة - للعصر العباسي- وهي التجسس، فجاءت الفكاهة مبتكرة إنسانية خالصة، ولم يقف التهكم الاجتماعي عند هذه فقط:

 

(حبس "محمد بن سليمان" رجلاً من المرْجفين ثم أخرجه وأمر بضربه، فضحك الجَلاَّد فقال له محمد: ما يضحكك؟ قال: أصلح اللهُ الأمير، زَعَم أنك لم تأمُرْ بضربه حتى أتاك كتابُ العَزْل، فقال خَلِّ عنه فلو تركَ الإرجافَ يومًا لتركه اليوم).

 

إن مروجي الشائعات أو ما نُطلق عليهم اليوم "الطابور الخامس" مرض اجتماعي فطن له الساسة، ولقد نجحت النادرة في التهكم منه وحققت عدة أهداف أخرى، فلقد حافظت على النهاية السعيدة التي تتناسب مع الفكاهة، وتركت تساؤلات مبهمة حول فعل "محمد بن سليمان"، فهل تركه وخلَّى سبيله رحمةً به حين أيقن أن هذا الداء الاجتماعي أصبح متأصلاً فيه ولا سبيلَ للشفاء منه؟ أم أنه أفرج عنه تطيّرًا منه، وخشية تحقق إرجافه؟ وهنا يكون المرجف قد نجح في تحقيق غايته من الإفلاتِ من العقاب بطريقته!

 

والتفت النادرة إلى فئةٍ أخرى تتمثل في البائعين وطرق نصبهم وتضليلهم ومن بين النوادر التي تعرضت لهم:

 

(قال "الجماز": رأيت صاحب بطيخ يقول: هذا عسل، هذا سُكرّ، هذا قنْد، فتقدمتُ إليه وقلت: عندي عليل يشتهي بطيخة حاضمة، فقال خلٌّ حاذقٌ وحياتك، لا تلتفت إلى قولي فإنه خل).
لقد انساق البائع خلف ما تعوَّد عليه من محاولة ترويج سلعته بأي طريقة، فوقع في الفخ الذي نصبه له الجماز!

 

ومما تعرضت له النوادر الكذب المفضوح والادَّعاء والنفج أو ما نطلق عليه (الفشر) كالذي ادَّعى أمام "معاوية" أن داره فرسخان في فرسخين فقال له: دارك في البصرة أم البصرة في دارك؟ وتطلعنا النوادر على جانب فني هام وهو أن المسابقات كانت تُعقد لهذا المضحك! كما في النادرة التالية:

 

(قال "المدائني": كان عندنا بالمدائن دهْقان يقال له "دينارويه" وكان خبيثًا. فقال له والي المدائن: إن كذبت كذْبةً لم أعرفها فلكَ عندي زِقُّ شراب ومسلوخٌ ودراهم، فقال "دينارويه" هربَ لي غلامٌ فغاب عني دَهْرًا لا أعرف له خبرًا، فاشتريتُ يومًا بطيخاُ فشفقتُ واحدة فإذا الغلام فيها يعمل قفّافّا فإذا هو إسكاف، قال العامل: قد سمعتُ بهذا.

 

قال: كان عندى برزون فدَبرَ، فوصِف لي قشور الرُّمَّان فألقيتُهُ على دَبَرهِ فخرجت على ظهره شجرةُ رمان عظيمة، قال العاملُ: وقد سمعت بهذا، قال: كان لي غلام وله فروةٌ فوقع فيها القملُ فطرحَها فحملها القمل ميلين، قال: سمعتُ بهذا: فلما رأى إنه يبطلُ عليه كلَّ ما جاء به قال: إني وجدتُ في كتبِ أبي صَكَّا فيه أربعةُ آلاف درهم، والصكُّ عليك.. قال: ما سمعت بهذا، قال: فهات الزق والمسلوخ والدراهم).

 

قد يعجب البعض من الوالي الذى يَسْعَدُ بمثل هذه الأكاذيب الطفولية، والحق أنها ما زالت تسعد الناس كبارًا وصغارًا في صورٍ حديثة، كالرسوم المتحركة التي تعتمد على مثل هذا المنطق، ويقبل عليها الجميع.

----------

أهم المصادر:

- البصائر والذخائر للتوحيدي.

- الحيوان للجاحظ.