فلما كانت الليلة الثامنة والثمانون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة؛ قالت فقرزاد:
 بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، أنه كان في مدينة مصر رجل تاجر، وكان عنده شيء كثير من مال ونقود وجواهر، وكان اسمه حسن الجوهري البغدادي، وقد رزقه الله بولدٍ حسن الوجه، معتدل القد، مُورد الخد، ذو بهاء وكمال، وبهجة وجمال، فسماه عليًّا المصري، وعلَّمه العلومَ والكمبيوتر، ومن براعته كان يقول على الماء "ووتر"! وكان تحت يد والده في التجارة، فحصل لوالده مرض وزاد عليه الحال، وأيقن بالموت؛ فأحضر ولده وقال له: يا ولدي إن الدنيا فانية، والآخرة باقية، وأُريد أن أوصيك وصيةً إنْ عملت بها لم تزل آمنًا سعيدًا، وإن لم تعمل بها فإنه يحصل لك تعبٌ زائد، وتندم على ما فرطت في وصيتي.

 

فقال: يا أبت كيف لا أسمع ولا أعمل بوصيتك مع أن طاعتك فرضٌّ عليَّ!

فقال له: يا ولدي إني خلفتُ لك مالاً لا يُحصى بحيث لو أنفقت منه كل يوم خمسمائة دينار لم ينقص منه شيء، ولكن عليك بتقوى الله، وصحبة أهل الخيرات، والبعد عن أهل الشبهات.
فبكى الولد بكاءً شديدًا وقال: يا والدي كأنك تقول قول مودِّع!

 

فقال له: نعم يا ولدي، أنا عارفٌ بحالي، فلا تنسَ وصيتي، ثم إنه تشهَّد وشهق وفارقت روحه جسده، وتُوفي إلى رحمةِ الله تعالى.

 

فحصل لولده غاية الحزن، وظلَّ في بيته لا يخرج إلا إلى المصلى مدةً من الزمان، حتى دخل عليه أقرانه من أولاد التجار وسلموا عليه وقالوا له: إلى متى هذا الحزن الذي أنت فيه، وترك شغلك وتجارتك، واجتماعك على أصحابك، وحين دخلوا عليه كان إبليس اللعين يوسوس لهم، فصاروا يحسنون له أن يخرج معهم إلى السوق، وإبليس يغريه بموافقتهم، إلى أن وافقهم لأمرٍ يريده الله سبحانه وتعالى وخرج معهم، فقالوا له: اركب بغلتك وتوجَّه بنا إلى البستان الفلاني، لنتفرج فيه ويذهب عنك الحزن والفكر.

 

فلما صاروا في البستان الذي قصدوه أكلوا وانبسطوا، وجلسوا يتحدثون إلى آخر النهار، ثم ركبوا وانصرفوا، وصار كل واحد منهم إلى منزله.

 

فلما أصبح الصباح جاءوا إليه وكرروا ما فعلوا في اليوم السابق، وابتدره بالحديث صاحبٌ صادق، وقال له إن أموالك وجواهرك، وتجارتك وعبيدك، تحتاج رعايتك وتفكيرك، ولو انضممت إلى خاصة الأمير، وصرت من رجالاته المقربين، حفظت مالك، واستثمرته لعيالك، وربما ولاك وزارةً، أو جعلك شهبندر التجار والتجارة.

 

فقال علي المصري بن حسن الجوهري: وأين لي بمصاحبة الأمير، والوصول إلى مجلسه الخطير؟!

فقالوا جميعًا له: هذا أمرٌ يسير، نرسل إلى حاجبه هديةً من جواهرك الثمينة، وسيقوم هو بوضع خطةٍ متينة.

 

فنفَّذ ما اقترحوا عليه، ولم يمسك يديه، بل اختار جوهرةً ثمينةً فريدة، لا يوجد مثلها عند ملك بغداد ولا غيره من الملوك، وكانت زوجته تنصحه وتُذكره بوصيةِ والده، فلم يسمع كلامها، وبالجهل والسذاجة اتهمها.

 

وانتظر أن يدعوه الأمير إلى مجلسه مع الكبراء؛ ولكن طال انتظاره وجاءه الأصدقاء، وقالوا: إن الحاجب مهَّد لك الطريق، فجهز هديةً بالأمير تليق.

فقال: والهدية الأولى إلى مَن ذهبت؟

قالوا: هذه هدية الحاجب.

 

فجهَّز جوهرةً أثمن من الأولى بكثير، وشدد على الحاجب أن يُسلمها للأمير، وجاءه أقرانه بعد أيامٍ بالبشرى، وأخبروه أن الأمير قبل هديته بعد استعطافهم إياه، ولا مانع عنده من حضوره مجلسه في أي وقتٍ يشاء، ولكن لا بد أن تكون له صفة من الصفات، حتى يدخل بها مع الأعيان وأصحاب الوزارات.

وقالوا: إن الأمير يريد أن يخلع عليك لقب شهبندر التجار، ويريدك أن تساعده حتى لا يعترض أحدٌ على القرار.

ونصحوه أن يبذل العطاء، ويُنفق بسخاء، على السوق والخان، إن أراد أن يكون من الأعيان.
فقال: من الصباح سأنزل السوق، وسأعمل ما يصل خبره إلى مولانا الأمير.

فقالوا محذرين: إياك أن تفعل ما تقول، ففيه نفيك من البلاد! عليك أن تهدي ما تشاء للأمير، وهو ينفق كما تقتضي مصلحة البلاد والعباد.

 

فقال التاجر علي المصري بن حسن الجوهري البغدادي: حُبًّا وكرامةً، وأرسل للأمير الجواهر والأموال، ليصلح أحوال السوق والرجال، وظلَّ على هذه الحال، مدة ثلاث سنوات، وزوجته تذكره بوصية أبيه، ولكن ما كان لأحدٍ أن يُؤثِّر فيه، إلى أن نفد المال الذي كان عنده جميعه، ولم يأذن له الأمير بعد أن يكون جليسه.

وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.