حكاية السندباد البحري وسيد الجمني

فلما كانت الليلة الرابعة والتسعون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة؛ قالت فقرزاد:

بلغني أيها الملك الرشيدْ، ذو الرأي السديدْ، أن السندباد البحري، قدْ رأى قاربَه الذي يجري، قد تفكك وصار قطعًا من خشب الصندلْ، وجاء الدلال عليه يدلِّل، وأقبل على المزاد جميعُ التجارْ، وتزايدوا إلى أن بلغ ثمنُه ألف دينارْ.

 

وهنا التفت إليه صديقه الشيخ، وقالْ: هذا سعر بضاعتك في مثل هذه الأحوالْ، فهل تبيعها، أم تصبر وفي حواصلي أخزِّنُها، حتى يجيء أوان زيادتها في الثمن فتبيعها؟

فقال السندباد البحري: يا سيدي لك الأمرْ، فافعل ما ترى فيه الخيرْ.

فقال الشيخ: يا ولدي هل تبيعني هذا الخشب بزيادة مائة دينارْ، فوق ما أعطى التجارْ؟

فقال السندباد: نعم قد بعتُك خشب الصندلْ.

فأخرج الشيخُ الثمن، وقال له: تفضّلْ.

 

وبعد مدة أيام وليالْ، جاء إليه الشيخ وقال: يا ولدي أعرض عليك شيئًا، وأشتهي أن تطاوعني فيهْ.

فقال له: يا سيدي أنا طوعُ ما تأمر به أو تُمْلِيهْ، ولكن ما ذلك الأمرْ، حفظك اللهُ من كلِّ شرّ.

فقال الشيخ: أنا يا ولدي رجلٌ كبير السنّ، وليس لي وَلَدٌ ذَكَرٌ، يرثُني ويحفظ ذِكْرِي بين البشرْ، وعندي بنتٌ وافرة الجمالْ، كثيرة الجواهر والمالْ، أريدُ أن تتزوّجها، وأملّكك جميعَ ما عندي بجانبِ ثروتها.

فسكت السندباد ولم يتكلّمْ، فقال له: أطعني ولن تندمْ.

فقال: لقد سافرتُ إلى بلادٍ عديدة، وقاسيتُ أهوالاً شديدةْ، ولمْ يبقْ لي رأي ولا درايةْ، فافعل ما ترى فيه الهداية.

 

فعند ذلك أمر الشيخُ غلمانه بإحضار القاضي والشهودْ، وتوثيق الزواج والعقودْ، وزوّج سندبادَ من ابنتهْ، وتنازل له عن أمواله وتجارتهْ.

 

ومضت الأيامْ، وطاب للسندباد المُقامْ، إلى أن تُوفي الشيخ إلى رحمة العزيز الغفار، وأصبح السندباد هو كبير التجار؛ لأن الشيخ كان كبيرهم، يصرّف أمورهم، ويقضي بينهم، فأنزلوا السندباد منزلته، وولّوه مرتبَته.

 

فلما خالط السندباد البحري أهل تلك المدينة، وجدهم تنقلب حالتهم في كل شهرْ، وتظهر لهم أجنحة مثل الطيرْ، يطيرون بها إلى عنان السماءْ، ولا يبقى متخلفًا في تلك المدينة غير الأطفال والنساءْ.

 

فقال السندباد في نفسه: إذا جاء رأس الشهرْ، أستعين بما لدي من دهاءٍ ومكر، وأتودد إلى أحد هؤلاء الرجالْ المُتحولينْ، ليحملني معهم في رحلتهم إلى أين يروحونْ.

 

وبالفعلِ تمّ للسندبادِ ما أرادْ، بعد أن استعطف قلب أحد العبادْ، فحمله على جناحه وطارْ، وكان السندباد لم يُعْلِمْ زوجته أو غلمانه أو أحدًا من أهل الدارْ.

 

ولم يزلْ الرجل طائرًا بالسندباد في الهواءْ، وعلا به في أعالي السماءْ، حتى سمِع السندبادُ تسبيحَ الأملاكْ، في قبةِ الأفلاكْ، ورأى منْ آيات الله المبهرة، ما يُذْهلُ عقول الجبابرة، وأخذته هيبةُ ما يراهْ، فهتف: سبحان اللهْ، والحمد للهْ!

 

ولكنه لم يستتمّ التسبيحْ، حتى خرجت نارٌ من السماء شديدةُ الفحيحْ، كادت تحرق الجميعْ، فألقى الرجلْ السندبادَ على قمة جبلْ، وهبطوا سريعًا، وتركوه جميعًا.

 

ولم يدْرِ السندباد البحري ما يفعلْ، حتى قيَّضَ الله له رجلاً أعزلْ، كانت تجري وراءه حيَّةٌ رهيبةْ، فخلَّصه السندبادُ من هذه المصيبةْ، وقتل الحيَّةَ بضربةٍ عجيبةْ، فقال له الرجلُ: لقد أنقذت حياتي من الموت المؤكَّدْ، فأنا من اليوم عبدك وأنت السّيِّدْ، فاطْلب ما تشاء من الجواهر أو المالْ، ستجده أمامك في الحالْ.

 

فطلب السندباد أن يعيده إلى زوجته وأهلهْ، فما هي إلا لحظة حتى وجد نفسه في بيته، فتلقته زوجته وهنّأته بالرجوعْ، ثم قالت له: بقاؤنا في هذه المدينة من الآن ممنوعْ.

 

فلما تعجّب من قولها، وأوجس خيفةً من ردّها؛ قالت له: إنّ هؤلاء الأقوام هم إخوان الشياطين، الذين يسبّون الدينْ، ويتطاولون على رسولنا العظيمْ، والقرآن الكريم!

 

فقال لها: فكيف كان حال أبيك معهم؟

فقالت: لم يكن أبي منهم، وكانوا يخافونه، ويتحاشَوْنَه ويرهبونه.

فقال السندباد البحري: فما تلك النار التي كادت تحرقني، ومن الذي أراد أن يهلكني؟

فقالت: هؤلاء هم أسيادُ الشياطينْ، الذين يمنحونهم الأجنحة والأوسمة والنياشينْ، والجوائز والجرانينْ، ورئاسة المجالس والإداراتْ، والثقافة والمطبوعاتْ، بشرط ألا يذكروا اسم الله الرحمن الرحيمْ، ويحاربوا كل من يطالب بالعمل السليمْ، أو يدعو إلى نهضة الوطنِ السقيم.

 

فلما رأت الزوجة أن الدهشة قد عقدت لسان زوجها، وأنه لا يكاد يصدّق كلامها؛ قالت: ألا تعرف الشخص الذي حملك، وعلى جناحه رفعك؟

فقال: نعم، إنه ذو قلبٍ عطوف، وفكرٍ شغوفْ، كأنه رجل فيلسوفْ.

فقالت: إنه سيد الجمني، لا يطاوله إنسٌ ولا جنِّي، ولكن ليس في الثقافة والتنويرْ، بل في الردح والتزويرْ، ومن أجل ذلك منحه الأسيادْ، أكبرَ جائزةٍ في البلادْ! 

 

وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.