الأمم كالأفراد، تقوى وتضعف، وتصح وتمرض، تتقدم وتتأخر، تغتني وتفتقر، تعز وتذل، تبعا للحالة النفسية التي تسود أجيالها، فعندما دعا سيدنا موسى عليه السلام بني إسرائيل إلى دخول الأرض المقدسة -وكانوا قد ألفوا الذل والخنوع لفرعون الطاغية- رفضوا جبنا وخوفا متعللين بأن فيها قوما جبارين، وعندما نصحهم ناصحان منهم أن يتوكلوا على الله ويطيعوا أمر موسى، تشبثوا برفضهم، بل قالوا لنبيهم موسى ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، لذلك عاقبهم الله تعالى بأن يَتِيهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حتى ينتهي هذا الجيل الجبان الرعديد، ويأتي بعده جيل تربى على العزة والكرامة والشجاعة، فيمتثل لأمر النبي أو تلاميذه. 



وفي المقابل نجد الصحابة رضوان الله عليهم وهم يعربون عن عزة وشجاعة منقطعة النظير، حينما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم الرأي والمشورة قبل غزوة بدر، حتى قَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: «يَا رَسُولَ اللّهِ امْضِ لِمَا أَرَاك اللّهُ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللّهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ»، وقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: «امْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا».


وقد غزا نابليون بونابرت مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وانهزم أمامه المماليك الذين كانوا يمثلون العسكر في مصر، فتصدى لهم الشعب المصري في ثورتين عظيمتين خلال ثلاثة أعوام، رغم الفرق الهائل في السلاح، فالفرنسيون يحاربون بالمدافع، والمصريون يستخدمون السلاح الأبيض والعصي، وكانت النتيجة أن دُكَّت القاهرة مرتين، واستشهد فيها أعداد غفيرة من البشر، ودخل الفرنسيون الجامع الأزهر بالخيول، ومع ذلك لم تنطفئ جذوة الثورة والعزة في قلوب المصريين، حتى قتل سليمانُ الحلبيُّ الأزهريُّ كليبر قائدَ الحملة بعد نابليون، واضطرت الحملة بعدها إلى الرحيل عن مصر. 


وبعدها بعدة أعوام عزل علماء الأزهر خورشيد باشا الوالي من قِبَل الدولة العثمانية، وعينوا محمد على باشا حاكما على مصر؛ ليحكمهم بالعدل والشرع، إلا أنه تخلص من العلماء الذين عينوه، وتحول إلى حاكم مستبد، وسعى إلى توسيع مملكته لتتحول إلى امبراطورية له ولأولاده من بعده. 


وفي عام 1952 استولى الجيش على الحكم في مصر بعد طرد آخر ملوك أسرة محمد على، وأصبح رجاله هم معظم الوزراء والمحافظين ورؤساء المدن والمؤسسات، وحل الأحزاب السياسية، وقدم كثيرا من السياسيين لمحاكمات عسكرية، وفتح السجون والمعتقلات للمعارضين، وعذب كثيرا منهم، وحكم في ظل الطوارئ، وتجسس على الناس للإيقاع بالمخالفين في الرأي، وساد مناخ الإرهاب في كل مكان، وكانت نتيجة الاستفتاءات والانتخابات 99,99% لمن تريده الحكومة، وتوارث العسكريون الحكم لمدة ستين عاما، وتكونت لديهم عقيدة أنهم أصحاب البلاد، وأن الشعب المصري إن أراد أن يحيا فعليه التخلي عن حرياته وحقوقه التي أقرتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وخنع الكثيرون لهذا القهر طيلة العقود الستة الماضية. 


حتى شب جيل قرر أن حريته أثمن من حياته، وأن كرامته هي عنوان إنسانيته، وأنه هو صاحب البلاد وسيدها وأنه مصدر السلطات، وأن الحكومة لا بد أن تكون مدنية حديثة، وأن البلاد لا بد أن تكون ديمقراطية دستورية، وأن حقوق الإنسان وعلى رأسها الحريات بكل أشكالها لا بد أن تكون مصونة، وأن الشعب هو الذي ينشئ الجيش ويملكه وبمده بالرجال، ويوفر له احتياجاته من المال والسلاح والتدريب، وأن دور الجيش هو الحماية والدفاع، ولا شأن له بالسياسة أو الحكم. 


وعلى هذه المبادئ قام بثورته السلمية العظيمة في 25 يناير 2011، وقدم الأرواح والدماء حتى أسقط رأس النظام، وسار خطوات على طريق التحول الديمقراطي وشارك في خمسة استحقاقات انتخابية، أسفرت عن برلمان ورئيس مدني ودستور، وكان قاب قوسين أو أدنى من استحقاق أخير لانتخاب مجلس للنواب، إلا أن مؤامرات كبيرة حيكت من الداخل والخارج الإقليمي والدولي لإجهاض الثورة وإعادة الشعب إلى بيت الطاعة والذل، فقام قادة العسكر بانقلاب عسكري في 3/7/2013 بعد أن عز عليهم أن يفقدوا سلطانهم السياسي، ويراقب الشعب امبراطوريتهم الاقتصادية، ويتحولوا إلى جيش وطني محترف وظيفته الحماية. 


وعندما وجد من الشعب الأعزل رفضا لهيمنة قادة الجيش على الحياة كلها مرة أخرى، استخدم هؤلاء القادة الانقلابيون الدمويون الجيش ضد الشعب في مجازر لم يعرفها التاريخ المصري من قبل، فقتل الآلاف، وأصاب واعتقل عشرات الآلاف، وحرق عددا كبيرا من الناس أحياء وبعد الممات، وحرق المساجد والمستشفيات، وغزا المدن والقرى، في محاولة مجرمة لنشر حالة من الصدمة والرعب، ظنا منه أن ذلك كفيل بإسراع الشعب لدخول قمقم الخنوع من جديد، وأن الأمر لن يعدو أسبوعا وتهدأ له الأحوال، ويعتلي كل العروش والمناصب مرة أخرى، إلا أن هذا الجيل الجديد خيب آماله وثبت في الميدان ينازله بصدره العاري ويده الفارغة وقلبه الممتلئ بالإيمان والعزة والشجاعة، وتسابقه على الشهادة في سبيل الله، وقد مرت تسعة أشهر لم تتوقف فيها المظاهرات في طول البلاد وعرضها، ورغم اشتراك الجيش مع الشرطة في القتل بالرصاص الحي الذي طال الرجال والنساء والشباب والفتيات، بل لم يسلم منه الأطفال، ورغم الاعتقال والتعذيب في السجون، حيث وصل المعتقلون إلى 23 ألف معتقل، ورغم المحاكمات الظالمة التي وصلت لحد الحكم على متظاهرين 17 سنة، وعلى فتيات متظاهرات بعضهن قاصرات بالسجن 11 سنة، بل حكمت على أموات. 


ومع مرور كل يوم لا يزداد الانقلاب إلا خيبة وفشلا، حتى وصل به الهوان أن يسلم زمامه إلى حكام الإمارات العربية تقضي في شأنه ما تشاء، ما دامت تنفق عليه، ولولا العناد والكبر وخوف العقاب لأعلن فشله وهزيمته لأنه عادى شعبه، ونفذ مخططات أعدائه، وسار عكس مسار التاريخ والزمن الذي أدان الانقلابات العسكرية، وقضى بأن زمانه قد ولى، وأن الحكم قد صار للشعوب، وأن الحرية والكرامة لا بد أن تسود. 


وهكذا من رحم المعاناة وفي ظلال أرواح الشهداء ومن عبق رائحة الدماء الزكية، ومن تسابق الجيل الجديد رجاله ونسائه وشبابه وفتياته بل وأطفاله من أجل الشهادة؛ يتم ميلاد الأمة التي لن يستطيع الباطل والاستبداد والفساد الباطش أن يجهضها بإذن الله. 


  ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾.

صدق الله العظيم، والله أكبر ولله الحمد، وعاشت مصر حرة مستقلة.