الخامسة إلا الربع عصرًا بتوقيت القاهرة من يوم الأحد 24/6/2012م، انطلق صوت المستشار فاروق سلطان، رئيس اللجنة القضائية العليا للانتخابات الرئاسية، بعد طول انتظار، لا ليعلن نتيجة انتخاب أول رئيس مدني في تاريخ البلاد فقط، ولكن ليعلن ساعة الفصل بين عهد طال لسبعة آلاف عام، كان يتم خلالها فرض الحاكم على الشعب ليجثم على صدره حتى موته، وعهد خلع فيه الشعب رئيسه وحاكمه وسجنه، ثم انتخب لأول مرة رئيسًا بكامل إرادته وحريته.

 

 كان انطلاق صوت المستشار فاروق سلطان قاطعًا، لا "لصمتٍ" حَبَس أنفاس شعوب المنطقة بأسرها انتظارًا لإعلان اسم رئيس مصر، ولكنه جاء مدويًا وهو يعلن نهاية عصر طويل من الكفاح والألم والتضحيات على مدى اثنين وثمانين عامًا هي عُمْر جماعة الإخوان المسلمين.. فمنذ أسس الشيخ حسن البنا- يرحمه الله تعالى- جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م بعد سقوط الخلافة الإسلامية بأربعة أعوام (1924م)، خاضت الجماعة مسيرة طويلة لتحقيق منهجها، وخلاصته تصبُّ في نَيْل استقلال القرار الوطني، وتحقيق نهضة الأمة على أسس إسلامية، وقد خاضت في سبيل ذلك كفاحًا مريرًا، قدمت فيه عشرات الشهداء، وفي مقدمتهم مؤسسها ومرشدها الأول الشيخ حسن البنا، وآلاف المعتقلين الذين غُيِّبوا ظلمًا خلف القضبان، كما تعرضت لقصف حملات دعائية متواصلة من التضليل والتخويف والتزييف وضعتها في خانة العدو الأول للوطن، وزيَّفت وعي الناس، ولم تقدم لهم على مدى أكثر من ستين عامًا إلا كل ما يخيف منهم.

 

وتعرضت الجماعة لأربع محن كبرى؛ في عام 1948م (في عهد حكومة "إبراهيم عبد الهادي" باشا)، وعامي 1954م و1965م (في عهد الرئيس "جمال عبد الناصر")، ثم محنة المحاكم العسكرية المتتالية في عهد الرئيس المخلوع "حسني مبارك" (بدأت عام 1995م ولم تتوقف إلا بعد خلعه). 

 

لقد أنفقت أنظمة الحكم المتتالية في مصر- ملَكِيَّة وجمهورية- على حرب الإخوان ما يفوق نفقاتها في حروب خاضتها ضد العدو الصهيوني، ولو تم توفير تلك الجهود والأوقات والأموال التي كرّست لحرب الإخوان منذ عام 1948م حتى يناير 2011م؛ لكفت لإعادة بناء الدولة من جانب، ولادخرت للوطن كفاءات وخبرات من الإخوان في مجالات متعددة كانت كفيلة بإدارة دولة، لكن أنظمة الحكم أهدرتها، بل أعدمتها وقضت عليها، مثلما فعل نظام "مبارك" في سنواته الأخيرة؛ إذ قضى على كل الكفاءات، بل وكل الأحلام، ولم يترك "خرم إبرة" لكي يتنفس الناس منه بصيص أمل! أتأمل مسيرة اثنين وثمانين عامًا وهي مسيرة لم يخضها تيار وطني ولا إسلامي في مصر بهذه الآلام والمرارات والتضحيات، نعم هناك تيارات وطنية ومؤسسات إسلامية وعلمانية وشيوعية تمتلك نفس عُمْر تاريخ جماعة الإخوان، لكن المؤرخ المحايد عندما يضع عُمْر التجارب في الميزان سيكتشف أن أحزابًا قامت وبزغ نجمها حينًا ثم انطفأت، أو استمرت حتى اليوم لكنها باتت أطلالاً، كما يكتشف أن تيارات برزت بقوة وشقت طريقها في الحياة السياسية المصرية ولكنها تبددت كما يتبدد السراب، التيار الوحيد الذي خرج من تلك المسيرة الطويلة والصعبة أقوى مما كان هو "تيار الإخوان"، رغم ما تعرض له من حملات تنوء بحملها الجبال.. لقد تخطت (جماعة الإخوان) كل العقبات، وخاضت كل الصعاب، وتعرضت لشتى الأهوال، لكنها شقت طريقها بإيمان لا يتزعزع، وبإصرار لا يلين، حتى حقَّقت- بفضل الله تعالى- ثمرة كبرى من ثمار كفاحها يوم 24/6/2012م بوصول أحد أبنائها إلى قصر الرئاسة رئيسًا لمصر، وقد كان صوت المستشار فاروق سلطان وهو ينطلق متهدجًا أو متلعثمًا أحيانًا كان يدوي في سمع الزمان والمكان ووجدان الإنسان، مقدمًا ثمرة من ثمار كفاح الإخوان المسلمين السلمي وهو يعلن اسم رئيس جمهورية مصر العربية.. وقد حقَّقت الجماعة ومعها أبناء الشعب المصري الذين التفوا حولها ما يشبه المعجزة بهذا الإنجاز؛ إذ لم يحدث في تاريخ الانتخابات الحرة حول العالم أن أعلن حزب أو فرد المشاركة فيها قبل إجرائها بسبعة وخمسين يومًا (31/3- 23/5/2012م)! 

 

إن المتأمل في مشهد ولوج الرئيس "محمد مرسي" للوهلة الأولى إلى القصر الجمهوري رئيسًا للبلاد، لا بد أن تتزاحم في ذاكرته مشاهد مختلطة طوال ثمانين عامًا، ولن يجد المرء فكاكًا من الإذعان لتصاريف القدر الحكيم، وحكمة الله العليا التي تجلَّت في مجريات الثورة منذ اندلاعها حتى اليوم..

 

فقد قتل القصر الملكي مؤسس الجماعة سعيًا لوأدها في مهدها، ولكن دماءه روت شجرتها حتى اشتد عودها، وها هو واحد من نبتها يصل ويحكم من ذات القصر باختيار شعبي حر.. واغتال القصر الجمهوري ثلة من كبار قادتها في عهد "عبد الناصر"؛ سعيًا لسحقها حتى لا يكون لها اسم ولا رسم، فإذا بدمائهم تتحول إلى طاقة ربانية امتدت بظلال الجماعة المباركة حول العالم كله فيما يقرب من ثمانين دولة. 

 

وإن المتأمل في أرتال المدرعات وسرايا الحرس الجمهوري المصطفة حول البيت الذي يسكن الرئيس "محمد مرسي" إحدى شققه بالإيجار، لا بد أن تتزاحم إلى ذاكرته أيضًا مسيرة أكثر من ستين عامًا من اصطفاف ومحاصرة قوات الأمن بكل تشكيلاتها لمساكن عشرات الآلاف من الإخوان؛ لتروّع ذويهم وتعبث في محتوياتها، وتقوم بنهب ما يروق لها، ثم تصطحبهم إلى خلف القضبان وسط صرخات أطفالهم وبكاء نسائهم.. لقد تحولت تلك المظالم- للإخوان ولغيرهم من أبناء مصر- إلى لعنات ادخرها الله سبحانه وتعالى ليوم 25 يناير 2011م ليصبها صبًّا على رؤوس الظلمة؛ فمحقتهم وشردت بهم كل مشرد، وليصبح "مبارك" ورجاله نزلاء السجون، ويصبح "مرسي" ومن حوله أبناء الشعب المصري في سدة الحكم.. وسبحان الله العظيم في ملكوته.

 --------------------------------

(*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة "المجتمع" الكويتية

[email protected]