سألني بعضهم أن أكتب لهم أحكام الكفالة وصورها ومسائلها فقلت مستعينًا بالله:

اختلف الأصحاب في الكفالة أرقٌّ هي أم إجارة؟ وجهان. واختار بعض المحققين في المذهب وهو المختار عندنا أنها ليست برقٍّ ولا إجارةٍ وإن كانت أشبه بالرقِّ إلا أنها تزيد على الرق في أمور:

منها: أن الكفالة باقية والرق قد يزول بأي أمر كالعتق بكفارة أو قربة.

ومنها: أن الكفالة لا تزول بالتدبير خلافًا للرق.

ومنها: أن الكفالة لا يلزم فيها النفقة على المكفول بخلاف الرق.

ولبعض الأصحاب مصنف في أوجه الشبه والفروق بينهما سماه (قلائد الوَرِق في الكفالة والرق) وذكر نيفًا وسبعين وجهًا في الفروق وفي بعضها نظر والله أعلم.

 

ولا يجوز أن يكون للمكفول كفيلان قولاً واحدًا في المذهب ولم أعرف له مخالفًا من الأصحاب قياسًا على المرأة فلا تتزوج من رجلين في آن واحد وهو استنباط لطيف له وجهه.

 

وإن اختلف الكفيل والمكفول في أي مسألة فالقول قول الكفيل اتفاقًا، كاختلافهما في أجرةِ تجديدٍ، وإدعاء أَبَقٍ، وتسفيرٍ، واستقدامِ أهلٍ وولدٍ ونحوها.

 

وفي القديم من المذهب لا يجوز سفر المكفول بغير إذن كفيله دون مسافة القصر، وكذا نكاحه، وشراؤه لدابة، والعمل الآن على خلافه وهو الجديد واختاره أكثر الأصحاب إلا في مسألة واحدة وهي إذا سافر المكفول إلى أهله وأراد الرجوع.

 

ويجب في خصومة إحضار كفيلٍ، ولا يحق له مخاصمة أو مطالبة بحق ما لم يحضر، أو يحبس حتى يأتي كفيله، قياس على مرأة بدون محرم فلا يحل لها الخصام دون إتيان محرمها.

 

ويستحب الاستعداد لتجديد إقامة قبل انتهائها بأشهر بمالٍ، وأوراقٍ، وإرضاءِ كفيلٍ، وأجرة ساعٍ وإن زادت عن قيمة المثل. وله نقل كفالة وفي كل نقل تضاعف القيمة، والأصل أن يبقى الجواز مع الكفيل ولا يعطى لمكفول إلا عند السفر خوف أبقه، وله تغيير مهنة، وتبديل اسم، وإضافة مولود بدفع رسمه.

 

والكفالة على ضربين: كفالة فرد، وكفالة مؤسسة. ولكل شروط وأحكام ومحاسن ومساوئ ليس هذا مقامها ومحلها المطولات في كتب الأصحاب.

 

ويستحب الصبر على ما يحصل عند تجديد إقامة واحتساب الأجر في ذلك من طول وقوفٍ، وزجر شُرَطٍ، وكثرة مطالب، وارتفاع أجرةٍ، وتأخير استلامٍ، ولفاعله وجه قياسًا على صغار الذمي في دفع الجزية.

 

وذهب بعض أشياخنا أن للإقامة وجهًا عند السلف، وذلك من فعل عمر في إخراج الناس إلى أمصارهم بعد الحج "حقيقة".

 

ولا يجوز عند أشياخنا السفر إلى بلاد الإفرنج لإسقاط تبعاتها، والحصول على ما يماثلها- ولو حسنت- عندهم، لقول المعتمد بن عباد: (لئن أرعى الإبل عند ابن تاشفين أحب إلي من أن أرعى الإبل للفونسو).

 

وتبطل الإقامة بضرب كفيل، أو ترك عمل، أو سفر بغير إذنه، أو سخط كفيل، ويحق للكفيل أن يغرّب مكفوله أي ساعة من ليل أو نهار ودون سبب، وبعضهم أجاز أن يأخذ من مكفوله من المال ما شاء قياسًا على قوله: أنت ومالك لأبيك.

 

ويجب حمل صك الكفالة (الإقامة) في كل حال ولو في نومٍ وخلاءٍ وقضاء وطرٍ وأكلٍ ونحوها، ولفاقدها تعريفها سنة، وإخراج بدل عنها مع تغريم، ويستحب صيانتها من الأذى وعدم امتهانها وتكريمها وبعضهم حملها على تعظيم شعائر الله، ولا تجزئ الإقامة إلا عن حاملها.

 

ومن بلغ الثامنة عشرة وجب عليه استخراج صك كفالة وبحث عن كفيل يليق بمثله غير والده لانقطاع العلاقة، ولا فرق بين طالب ومطلوب، وعامل ومعمول، ولا يحل لمكفول أن يعمل لغير مكفول وفيها تغريب عامل وتغريم معمول له.

 

ولا يقاس كفيل بمكفول كما لا يقاس ذمي بمسلم، وله الحق في بعض تعليم دون الجامعي، ويطبب بأجرة، ولا يمتلك أرضًا ولا عقار إلا بشرط الاجتهاد المطلق مع مال قارون، ولهم مقابر خاصة وإن دفنوا مع أهل البلد فلا يزيدوا عن ثلاثة في اليوم في مقبرة، وأجرته في العمل على النصف من أجرة حاضر قياسًا على ميراث الأنثى.

 

ومن لا إقامة له فليس له حظ البقاء بين ظهراني المسلمين، ولا يجوز إيواؤه قياسًا على إيواء المحدث، ولا يطبب من مرض، ولا يداوى من جراح، ولا يعلم من جهل، ولا يعطى من فقر، ويضيق عليه حتى يخرج أو يُخرج، ومن تستر عليه غرِّب أو غرِّم ، وإن مات فلا يدفن فورًا تعزيرًا .

 

وإن تزوج أجنبي بامرأة من أهل الحاضر فابنه في منزلة بين المنزلتين فهو دون حاضر وفوق أجنبي، وقد يلحق تارة بحكم أمه لحديث (الولد للفراش)، فيعامل معاملة أهل الحاضر في عمل أو تعليم أو علاج وليس على إطلاقه، ويشدد بعض أصحابنا زواج الأجنبي من حاضرة، وعكسه لا قياسًا على زواج المسلم من الكتابية.

 

ولبعض أشياخنا من أهل العلم أعمال في الكفالة فمنهم سائق، ومنهم حارس، ومنهم طباخ، ومنهم عامل، ومنهم راعٍ، وما من نبي إلا ورعى الغنم، ولا تجري أحكام الكفالة على بعض القوم ممن خلق بعين زرقاء وبشرة شقراء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

وأورد بعض المحققين من متأخري أصحابنا وجها آخر من وجوه الاختلاف بين الرق والكفالة: وهو أن الرقيق قد ينفك من الرق بالمكاتبة. وأدلتها من النصوص لا تخفى. أما المكفول فلا ينفك من كفيله إلا بموت أو ترحيل، أو نقل كفالة إن حظي برضا كفيله.