ينصر الله تعالى دينه بالرجل والمرأة، والقوي والضعيف، والبر والفاجر؛ فهذا فرعون الذى طغى وبغى وحارب الحق بشتى الطرق، انتفعت الدعوة بغبائه وحمقه وقد ظن أن السحر يدوم وأن الحق خلو من نفوس الناس؛ ففى الوقت الذى جهز فيه السحرة من أجل الدعاية لمشروعه الكفرى المناهض للدين، كانوا هم من تصدوا له، وألقموه حجرًا فى فمه، وحاولوا إفاقته، لكن كيف يفيق وقد ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فنكل المجرم بهم واتهمهم بانتمائهم لموسى، فكان ردهم المفعم بالإيمان الذى سجله الله فى كتابه العزيز قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة: (فَاقْض مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضي هَذه الْحَيَاة الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه: 72، 73].

 

إن دعوة الإسلام أمرها عجيب؛ فإنها إن تركت وشأنها انتشرت وانتفع الخلق بها، وإن تم التضييق على أصحابها تمددت كذلك فلا يقف فى سبيل تمددها أحد، وما سمعنا أن العنف والإرهاب ضد الدعوة قد عطلاها يومًا، فما زالت -فى كل ساعة- تقع على أرض جديدة، وفى قلوب جديدة قتلها ظمأ الكفر وأمراض الفطر المنكسة. وفى القرآن والسنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مواقف لا يمكن حصرها، تصور هذا المشهد المتكرر: طاغية مجرم له زبانية وحشود، ولديه إمكانات وفى يديه سلطة، يسخر كل هذا صادًا عن سبيل الله، فما ينفعه من ذلك شيء، وتستمر الدعوة فى طريقها تغز السير راسخة ثابتة، ولم لا والحق -سبحانه- هو الذى يقودها ويرعاها ويتولى أمرها؟

 

وفى قصة أصحاب الأخدود العبرة، صحيح كانت هناك تضحيات، لكنها الضريبة المعتادة فى معادلة الدعوات؛ إذ لا دعوة دون تضحيات، ولا دين دون اضطهاد.. لكن فى نهاية المشهد أسلم الجميع لله رب العالمين، واندحر الملك الأحمق الذى أمر بالإحراق والتقتيل، وهكذا: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُور اللَّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُتِمّ نُوره وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].

 

وما جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام شاهد على ما نحن بصدده؛ إذ وضعت فى وجهه -وهو النبى الخاتم- العقبة تلو الأخرى، ووصلت الأمور إلى حد استهدافه هو (وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30] وقد نال أصحابه ما نالوا من عذاب.. لكن كل ما جرى لهم كان سببًا فى إيقاظ الغافلين فى مكة نفسها وقد ميزوا بين الخطأ والصواب، والحق والباطل، كما دفع هذا التضييق تلك الثلة المؤمنة الفريدة إلى البحث عن مكان بديل يرعى الدعوة وينال شرف خدمتها والحشد لها، فكانت المدينة التى لم يعد فيها بيت واحد لم يدخله الإسلام، فى وقت كان كفار مكة الأغبياء يلاحقون ذويهم ويفرقون بين الزوج وزوجه والأم وولدها.

 

لا يدرك الطغاة أن معركتهم بالأساس مع الله، وأن من يوقعون عليهم السجن والعذاب إن هم إلا ستار للقدرة ويأخذون الأجرة، أما أهل الحق فإنهم على ثقة تامة بزوال المجرمين، وتمكين أصحاب الدعوات، فهم لذلك لا ينزعجون، ولا يفت فى عضدهم تلك القوى والأحلاف والأعداد والعدد، فالله معهم وهو كافيهم ومعينهم، فإذا كان ثمة نصر فمن الله (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) [الأنفال: 17]، وإن تأخر هذا النصر فهناك يقين بقرب مجيئه، غير أن هناك أجلا يحدده الله لأمور فى كونه لا تخضع لحسابات البشر، لكن الثقة لا تهتز أبدًا.. (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].

 

وأقول لمن انزعجوا لوقوع الانقلاب وما قد يمثله من خطورة على الدعوة: والله لن يضيع الله -عز وجل- دعوته أو دعاته أبدًا، ولسوف يكون الخير -كل الخير- على يد هؤلاء الفجرة، ولمذا نذهب بعيدًا ولدينا واقعة تشهد بما أقول.. لقد علمنا ما جرى للإخوان على يد طاغية الدهر (عبد الناصر) حتى صاروا مثلا يضرب فيما وقع لبشر من تعذيب واستئصال، فهل نجح الهالك فى شىء مما أراده؟.. أبدًا لم ينجح فى شىء، بل خسر كل شىء، ومات مهزومًا مدحورًا مخلفًا وراءه الفقر والعار والشنار، وفى المقابل أثمرت دعوة الإخوان وأينعت بسبب ما اقترفت يداه الملوثتان بدماء الأطهار.. انتشر الإخوان فى سبعين بلدًا حول العالم ما كان لهم أن يصلوا إليها إلا فرارًا من الملاحقة والتعذيب، وقد صُقل من بقوا رهن السجن فخرجوا دعاة من طراز عجيب، هيأ الله لهم قلوب العباد فلم تعد قرية ولا كفر على أرض المحروسة إلا ودخلتها دعوة الإخوان المسلمين.


إن هذا الحدث (الانقلاب الدموى) سوف يكون سببًا فى نقل الجماعة من مرحلة إلى التى تليها، وكما صقل الانقلاب الأول فى 1952 أعضاء الإخوان فسوف يصقل هذا الانقلاب أعضاء الجماعة الآن، فضلا عن أنه وحّد أبناء الحركة الإسلامية بجميع فصائلها، وأزاح الستار عن منافقين يدّعون الإسلام موالين لتيار العلمانية والطائفية.. والمجال لا يتسع لذكر فوائد هذا الانقلاب للإسلاميين عمومًا وفى قلبهم الإخوان المسلمين.. لكنها ستكون بشرى، وسيكون الخير والفضل والنعمة بإذن الله (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].