(1)              بيْنَ ارتكابِ أخفِّ الضرريْن وبينَ الذِّلَّة بُعْد المَشْرِقَيْن

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى رسولِ اللهِ، وعلى آلهِ وصحبِه ومَنْ والاه،

وبعد؛ فلا يزالُ قادةُ الانقلابِ الفاشيّ الدمويَّ سادِرِين في غَيِّهم، غيرَ مُبَالِين بحُرمةِ الدماءِ المعصومةِ التي يسفِكُونها في الشوارعِ والميادينِ، وتحتَ وطأةِ التعذيبِ في السجونِ وفي سياراتِ التَّرْحيلاتِ، ومن خلالِ أحكامٍ بالإعدامِ تُنْسَب إلى ما يُسَمَّى (القضاء).

وبموازاةِ كلِّ ذلك نرَى إخوانَهم من المنسوبين إلى أهلِ العلمِ يمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (لاَ يَكُفُّونَ عَنْ إِغَوَائِهِمْ)، ويُزَيِّفون للشعبِ المبرِّراتِ الواهيةَ ويختلِقُون للأمَّةِ المعاذيرَ الباطلةَ؛ لدفعِها إلى القبولِ بالذُّلِّ والضَّيْم والخُنوعِ أمامَ العُدوانِ والإجرامِ، ويُدَلِّسُون في النَّقْلِ عن أهلِ العلمِ لإيهامِ العامَّةِ والبُسطاءِ بمشروعيةِ قَبُولِ الدَّنِيَّةِ في دينِهم، والتسليمِ باغتصابِ بلدِهم وأعراضِهم، ومُصادرةِ مُستقبَلِهم وحُرِّياتِهم وكَرامتِهم؛ اتِّقاءً –فيما يزعُمون- لضررٍ أكبر! ونزولًا –فيما يتوهَّمون- على قاعدةِ (ارتكاب أخفِّ الضررين).

ولستُ بصدَدِ الحديث عن هذه القاعدةِ وعلاقتِها بغيرها من القواعدِ المتَّصلةِ بها، أو كشْفِ التدليسِ في النَّقْلِ عن أهلِ العلمِ، ويكفِي أنْ أُشيرَ إلى موقفٍ من مواقفِ سُلطانِ العلماءِ العزِّ بن عبد السلام، صاحبِ المواقفِ المشهودةِ في وجهِ الظَّلَمةِ، والذي أُقْحِمَ اسمُه ظلمًا في الترويجِ لفتاوَى الخُنوع، فهذا الرجلُ العظيمُ -الذي تحمَّل مظالمَ جَمَّةً بسببِ مواقفِه القويةِ- لما قيل له: تعالَ قَبِّلْ يدَ السلطانِ حتى يُسامحَك ويعفوَ عنك وتعودَ إلى منصبِ القضاءِ؛ تبسَّمَ وقالَ لرسول السلطان: «مساكينُ! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، أنا ما أرضَى أنَّ يُقَبِّلَ السلطانُ يدِي، فكيف أُقَبِّلُ أنا يدَه، الحمدُ لله الذي عافَاني مما ابتَلاكم به».

ومنذ متى كانت المعَالي والمكارمُ تُطْلَبُ أو تُحَصَّلُ بغيرِ هذه العِزَّةِ والشَّجاعة والرُّجُولة؟

تُرِيدِينَ لُقْيَانَ المعَالِي رَخِيصَةً              وَلَا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ

فهل الرِّضا بالظُّلمِ، والرُّكونُ إلى الظالمين، والتزلُّفُ للقتَلَةِ المجرمينَ، والسُّكوتُ عن الحقِّ، وإغماضُ العينِ عن المنكراتِ الظاهرةِ، وتزيينُ الباطل، والادِّعاءُ بأنَّ السفاحَ الذي أمرَ وأشرفَ على قتلِ الآلافِ أقربُ إلى الإسلامِ والتديُّنِ من غيره، وادِّعاءُ أنَّه تنطبقُ عليه أوصافُ الحاكمِ الشرعيِّ، ثم دعوةُ الناس إلى القبولِ بالأمرِ الواقعِ، وإقرارُه على ظلمِه، وتحويلُ (أكلِ الميتةِ للضرورة!) إلى أصلٍ بعد أن كانت استثناءً؛ هل كلُّ ذلك من ارتكابِ أخفِّ الضرريْن وأَهْوَنِ الشَّرَّيْن؟!

اللَّهُمَّ لا؛ وألفُ لا، وإنما هو من الذِّلَّة التي نزَّه اللهُ المؤمنينَ أن يتَّصِفوا بها، وحرَّمَ عليهم أن يقبَلُوا بها، فضلًا عن أن يتطوَّعَ أحدٌ من أهلِ العلمِ بدعوةِ الناسِ إلى تَجَرُّعِها، وإنَّ ما بين (ارتكاب أخفِّ الضَّرريْن) وبين (الذِّلَّة) شتَّان شتَّان!، بل لا معنى للعيْشِ في ذِلَّةٍ وانكسارٍ عند الأحرارِ وذوِي المروءات، ولو كان في أفخرِ القُصور، بل الموتُ في عِزٍّ خيرٌ من العيشِ في ذُلّ.

ذَلَّ مَنْ يَغْبِطُ الذَّلِيلَ بِعَيْشٍ      رُبَّ عَيْشٍ أَخَفُّ مِنْهُ الحِمَامُ

(2)              الإسلامُ يُحَرِّمُ على المسلمِ أنْ يُعْطِيَ الذِّلَّةَ مِنْ نفِسه

المؤمنُ عزيزٌ بإيمانه وبإعزازِ الله له، ولذلك لا ينبغِي أنْ يُعْطِي الذِّلَّةَ من نفسِه طائعًا غيرَ مُكْرَهٍ، وفي الحديث عند النسائيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ». وفي رواية: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَنْ تَظْلِمَ أَوْ تُظْلَمَ».

إنَّ ثمنَ الكرامةِ كبيرٌ، وتكاليفَ العِزّة غاليةٌ، ولكنَّ المؤمنَ الصادقَ لا خيارَ له إلَّا أنْ يدفَعَها ليكسبَ الدُّنيا والآخرةَ ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ولا تقومُ الأمجادُ، ولا تسعَدُ الحياةُ للأحرارِ إلا على مركبِ العِزّة ومتنِ الكرامة

لَا تَسْقِنِي مَاءَ الحَيَاةِ بِذِلَّة                 بَلْ فَاسْقِنِي بِالعِزِّ كَأْسَ الحَنْظَلِ

ولن تُحْمَى الأوطانُ إلَّا بالتضحيةِ والفداءِ، ولن تتقدَّمَ الأُممُ إلا بالشَّمَمِ والإِباء، ولن يُخْدَمَ الدِّينُ وتُحْفَظَ الأخلاقُ وتُصَانَ الأعراضُ إلا إذا استُرْخِصتْ في سبيلِها الأرواحُ والدِّمَاء

لاَ يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنْ الاذَى          حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ

أما الذِّلَّةُ فليستْ من شأنِ الأحرارِ والشُّرفاءِ، بل شأنُ الذين هم أحرصُ الناسِ على حياةٍ أيِّ حياة! ولو تحتَ ضغطِ البِيَادَةِ وسَوْطِ الهَوان

وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ               إلَّا الْأَذَلَّانِ: عَيْرُ الحَيِّ، وَالْوَتَدُ

هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ  وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ

(3)              المسلِمُ لا يتردَّدُ في الدِّفاعِ عن كرامتِه والجهْرِ بالحقِّ

لقد حَرَّمَت الشريعةُ على المسلمِ أنْ يستسلمَ لمن يريدُ أنْ يفرضَ عليه الذلة، فما بالك بمن يلتمسَ للذِّلَّةِ والجبنِ تبريرًا، أويعتبرَ ذلك عقلًا وذكاءً

يَرَي الجُبَنَاءُ أَنَّ الْعَجْزَ عَقْلٌ               وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئيم

فإذا أُريدَ المسلمُ الحُرُّ على إذْلالِ نفسِه أو إهانتِها؛ فإنه يغضبُ ويُزمجرُ كما يزمجرُ الأسدُ، ولا يرضى لنفسِه الدَّنِيَّةَ في دينِه أو عِرْضِه أو كرامتِه، قال عمرُ رضي الله عنه: «أُحِبُّ الرَّجُلَ إِذَا سِيمَ خُطَّةَ خَسْفٍ أَنْ يَقُولَ بِمِلْءِ فِيهِ: لَا».

وقد اعتبر الإسلامُ انتصابَ المسلمِ للدفاعِ عن نفسِه أمامَ مَنْ يطمعُ في مالِه أو يعتدِي على عرضِه جهادًا فى سبيلِ الله، وليس دفاعًا عن الحقِّ الشخصيِّ فقط، بل إقرارًا للحقوقِ العامَّةِ والمثُلِ العاليةِ، ووصفَ المؤمنين بأنهم ﴿إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾، ومن ثَمَّ فإنَّ موتَ المسلمِ دونَ حقِّه شهادةٌ، وفي الحديث عند مسلم: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ»، وعند أبي داود: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».

وقد كان أهلُ العلمِ نماذجَ رائعةً في الجهرِ بالحقِّ في وُجوهِ الظلمَةِ، ورفضِ تبريرِ منكراتِهم مهما كان الثَّمن، وهذا الإمامُ الأوزاعيُّ يحكِي لنا حوارَه مع الأميرِ العباسيِّ الجبارِ عبدِ الله بنِ عليٍّ بعد أن قَتَلَ بَنِي أُمَيَّةَ:

قَالَ: أَنْتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ؟

قُلْتُ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيْرَ.

قَالَ: مَا تَقُوْلُ فِي دِمَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ؟ فَسَأَلَ مَسْأَلَةَ رَجُلٍ يُرِيْدُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا.

فَقُلْتُ: قَدْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم عُهُودٌ.

فَقَالَ: وَيْحَكَ! اجْعَلْنِي وَإِيَّاهُم لاَ عَهْدَ بَيْنَنَا.

فَأَجْهَشَتْ نَفْسِي، وَكَرِهَتِ القَتْلَ، فَذَكَرتُ مُقَامِي بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَفَظْتُهَا، فَقُلْتُ: دِمَاؤُهُم عَلَيْكَ حَرَامٌ.

فَغَضِبَ، وَانْتَفَخَتْ عَيْنَاهُ وَأَوْدَاجُهُ، فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ! وَلِمَ؟!

قُلْتُ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: ثَيِّبٍ زَانٍ، وَنَفْسٍ بِنَفْسٍ، وَتَارِكٍ لِدِيْنِهِ».

قَالَ: وَيْحَكَ! أَوَلَيْسَ الأَمْرُ لَنَا دِيَانَةً؟!

قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟

قَالَ: أَلَيْسَ كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ؟

قُلْتُ: لَوْ أَوْصَى إِلَيْهِ، مَا حَكَّمَ الحَكَمَيْنِ.

فَسَكَتَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ غَضَباً، فَجَعَلْتُ أَتَوَقَّعُ رَأْسِي تَقَعُ بَيْنَ يَدَيَّ.

فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا - أَوْمَأَ أَنْ أَخْرِجُوْهُ -.

قال الذهبيُّ مُعلِّقًا على هذه القصَّة: «قَدْ كَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ مَلِكًا جَبَّارًا، سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، صَعبَ المِرَاسِ، وَمَعَ هَذَا فَالإِمَامُ الأَوزَاعِيُّ يَصْدَعُهُ بِمُرِّ الحَقِّ كَمَا تَرَى، لاَ كَخَلْقٍ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِيْنَ يُحَسِّنُوْنَ لِلأُمَرَاءِ مَا يَقْتَحِمُوْنَ بِهِ مِنَ الظُّلمِ وَالعَسْفِ، وَيَقلِبُوْنَ لَهُمُ البَاطِلَ حَقّاً -قَاتَلَهُمُ اللهُ- أَوْ يَسكُتُوْنَ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى بَيَانِ الحَقِّ».

(4)               لا يُذَلُّ مَنْ أَعَزَّ اللهُ، وَلا يُعَزُّ مَنْ أَذَلَّ اللهُ  

في حديث أبي داود فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، ولا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ».

وبهذا اليقينِ لا تجدُ المؤمنَ الصادقَ إلَّا عزيزًا في أقوالِه وأفعالِه ومواقفِه، حتى لو كان فقيرًا أو ضعيفًا في نفسِه، فهذا الرأسُ الذي يُطَأْطِئُ للهِ ربِّ العالمين لا يمكن أن يكونَ ذليلًا مهينًا يُطَأْطِئُ لغيرِه بحالٍ من الأحوالِ، تحت وطأةِ شهوةٍ أو رغبةٍ أو رهبة.

أما العصاةُ فإنْ رأيت مظاهرَ العِزَّةِ على بعضِهم فاعلم أنها مظاهرُ زائفةٌ، وقد مُلِئَتْ قلوبُهم ذُلًّا، وهم يسترون هذا الذلَّ بالمبالغةِ في تلك المظاهِر، قال الحسنُ البصريُّ وذُكِر عنده الملوك: «أما إنَّهُمْ وَإِنْ هَمْلَجْت بِهِمْ الْبِغَالُ، وأطَافَتْ بِهِمْ الرِّجالُ، وتَعَاقَبَتْ لهمُ الأموالُ، إنِّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللَّهُ إلا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ».

(5)              سِلْمِيَّتُنَا سِرُّ قُوَّتِنَا ومَظْهَرُ عِزَّتِنا

مع إيغالِ الانقلابيِّين الدمويِّين في دماءِ شعبِنا الزكيَّةِ وإلحاحِهم على جرِّ ثورتِنا المبدعةِ بعيدًا عن طبيعتِها؛ يكون من الضروريِّ أن نُذكِّرَ أنفسَنا وكلَّ الثائرين الأحرارِ بالأصلِ الأصيلِ الذي تقوم عليه ثورتُنا الشعبيةُ المباركةُ في استعادةِ الوطنِ ومناهضةِ الانقلابِ، وهو السلميَّةُ المبدِعةُ المبتكِرَةُ، وليس الاستسلام، فثورتُنا سلميَّةٌ، وستبقى سلميَّةً، وسلميَّتُنا سِرُّ قُوَّتِنا، ومظهرُ عِزَّتِنا، وسلميَّتُنا أقوى من رصاصِ الغدْرِ الانقلابيِّ ومشانقِه، ولن تنكسرَ إرادتُنا بإذنِ اللهِ، وسنظلُّ نصدَعُ بالحقِّ في وجهِ كلِّ جائر، لا نخشَى إلا اللهَ، موقنين بما جاء في الحديث عند أحمد: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ».

واختيارُنا للسلميَّةِ ليس تكتيكًا ولا مناورةً، بل هو اختيارٌ أساسيٌّ مبنيٌّ على فقهٍ شرعيٍّ، ووعيٍ واقعيٍّ، وقراءةٍ صحيحةٍ للتاريخِ ولتجاربِ الأممِ والشعوبِ، سبق توضيحُها في رسائل َكثيرة من قبل.

(6)              التخلُّصُ من المتذلِّلِ بعد أن يُقَدِّم ما عندَه

ثمة أمرٌ مهمٌّ أختم به هذه المقالة، وهو أن الظالمَ الذي يمنحُ العِزَّةَ والحمايةَ لمن يتذلَّلُ إليه، إنما يمنحُها بقدرِ ما يُقدِّمه المتذلِّلُ من خدمةٍ بالتفريط في دينِه أو وطنِه أو مصالحِ أمَّتِه، فإذا ما قضى منه وَطَرَه، ولم يعدُ لدى الذليلِ ما يُقدِّمُه؛ فإنه لا يتردَّدُ في التخلُّصِ منه، ومن أعان ظالمًا سلَّطه اللهُ عليه، يقول (أرنولد توينبي): «لقد ظللْنا نُخرج المسلمَ التركيَّ حتى يتخلَّى عن إسلامِه ويُقَلِّدَنا؛ فلما فعل ذلك احتقَرْناه؛ لأنه لم يَعُدْ عنده ما يُعْطِيه».

وقد خيَّب اللهُ فأْلَهُم، وها هو الشعبُ التركيُّ يعودُ بعد عقودٍ من التغريبِ سيرتَه الأُولى إلى دينِه وأصولِه وقِيَمِه، فيرْقَى ويعلُو حتى صار ينافسُ على المراكزِ الأولى في العالم في كلِّ الميادين!

وها نحن نرى سفينةَ الانقلابِ -الغارقةَ بإذنِ الله- كلما استثقلتْ حمُولتَها تخلَّصتْ من بعضِ مُنتسبِيها، وستظلُّ قيادتُها الغادِرةُ الفاشلةُ تتخلص من كلِّ المتعلِّقين بها فصيلًا بعد فصيلِ، وفردًا بعد فردٍ، بعد أن تستنفدَ منهم ما تريدُ من أغراض، والحبلُ على الكرار كما يقولون. 

فهل يتدارك المبرِّرُون والمتزلِّفُون أمرَهم، وهل يستنقِذُ المتزحلِقُون إلى الهاويةِ -قبلَ فواتِ الأوانِ- أنفسَهم، وهل يراجع المتساقِطُون ضمائرَهم ويجعلُون تزلُّفَهم إلى الله وحدَه، صدْعًا بالحقِّ، ونُصْحًا للخلقِ، واعتزازًا بالدِّينِ، قبلَ أن تسحقَهم يدُ الظلمِ التي قبَّلُوها، وقبلَ أن يقطعَ رقابَهم سيفُ الباطلِ الذي نصرُوه؟ هذا ما نتمنَّاه ونرجُوه، وإن كانت الشواهدُ كلُّها تناقِضُه، ولكن مَنْ يدرِي؟ لعلَّ اللهَ يُحْدِثُ بعد ذلك أمرًا، ينقِذُ به مَنْ علِمَ منه خيرا.

اللَّهُمَّ خُذْ بنَواصِينا إليْك، أخْذَ الكرامِ عليْك، وثبِّتْ أقدامَنا، واشرح بالحقِّ صدورَنا، وأَنِرْ به بصائِرَنا، واهْدِنا صراطًا مستقيمًا، حتى نلقاكَ وأنت راضٍ عنَّا، على الحقِّ ثابتين، غيرَ خَزَايَا ولا نادِمين.