بقلم: م. خالد حفظي*

حديثنا عن تجربة اعتقالات 1981م حيث بدأنا نتأقلم مع الوضع ونُوطِّن أنفسنا على الحياة الجديدة.. كان الطعام المصروف لنا من إدارة السجن (الجراية) لا يصلح حتى للحيوانات، في الصباح كان يأتينا الإفطار عبارة عن كتلٍ من الجير المطفي يسمونها (خطئًا) جُبنًا، وفي اليوم التالي ما كان يسمونه عسلاً أسودَ، ولم يكن فيه من العسل الأسود إلا حموضته، واليوم الثالث كان الإفطار عبارة عن "سوس مفول" كما كنا نُسميه، ثم بعد ذلك حدِّث ولا حرج عمَّا كان يأتينا في الغداء.

 

وأذكر أننا لما انتقلنا إلى سجن أبي زعبل قام أحد الإخوان بعمل مسابقةٍ بين أفراد الزنزانة لتسمية ما كان الحراس يوزعونه علينا في الغداء وكان عبارة عن أقراص قطر الواحد منها حوالي سبعة سنتيمترات، وكان الاسم الفائز (حمبلوظ)، وصار بعد ذلك هو الاسم الرسمي بيننا لما كان يُسميه الحراس (كوسة)!!!.

 

العجيب أن أحدًا منا لم يُصب بسوءٍ رغم ما كنا نأكله.. سبحان الله، ومع هذا السوء كانت الكميات قليلة جدًّا، وأذكر أننا- ونحن ما زلنا حتى الآن في استقبال طرة- كان معنا أخ فاضل يعمل أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم أو الطب- لا أتذكر- اسمه عاصم، وكان الدكتور عاصم هذا هو الذي يستلم الطعام لنا، وكان بمجرد استلامه للطعام يجمعنا ويضع يده على (الأروانة)، ونضع يدنا على يده ثم نقرأ جميعًا سورة (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف......) (السورة) ثم نأكل ونحمد الله على (النعمة)، ولا أذكر أننا قابلنا مشكلةً في موضوع الطعام باستثناء مرتين أو ثلاث كان الأكل لا يكفينا، هذا برغم منع الزيارات عنَّا في هذا السجن فقد جلستُ فيه ما يقرب من الشهرين لم يزرنا فيه أحد.

 

وهناك حادثة أُهديها للباحثين عن أسباب تطرف الشباب في هذا البلد وقد عشتها بكامل تفاصيلها.. ذات يوم قُطعت عنَّا المياه لمدة أربعة أيام، وكان يتم توزيع مياه الشرب علينا، وأذكر أن نصيب الفرد في زنزانتي من المياه كان كوبًا واحدًا فقط في اليوم، وكنا نحاول تدبير جزءٍ من هذا الكوب بقدر الإمكان لكبار السن، وفي اليوم الثالث لقطع المياه سمعنا طرقًا شديدًا على باب إحدى الزنازين وأحد المعتقلين يصرخ: عايزين ميااااااه، وكان لديهم أحد المرضى المصابين بالكلى، استمر الطرق فترةً فردَّ عليه الضابط الموجود بعجرفةٍ قائلاً: "برضه مش هاجيبلك!!!" فرد عليه الأخ بقوةٍ هزَّتنا جميعًا من الأعماق: "ربنا كبييييييير"، فردَّ عليه هذا المجرم بوقاحة: "ماكانش جابك هنا يا.... وسبَّه بأفظع الشتائم.. وأترك التعليق للقارئ الكريم وللذين يتغنون بالانتماء والوطنية.

 

كانت التحقيقات- كما أسلفنا- تبدأ بعد صلاة العشاء، وذات ليلة سمعتُ الصوت الجهوري الذي يُنادي على المعتقلين ينادي: خالد حفني، فرددت: نعم لأنني معتاد على مناداة اسمي بهذا الشكل كثيرًا؛ نظرًا لعدم انتشار اسم (حفظي)، أجابني المنادي: تحقيق، وهذا التحقيق كان بالنسبة للواحد منا يعني الدخول في جهنم، وبينما أهمُّ بالخروج من الزنزانة مع الحارس.. جال في خاطري- من حلاوة الروح- أن أتأكَّد من الاسم فسألتُ الضابط: "إنتو عايزين خالد حفظي ولا خالد حفني" فرد: لا.. عايزين خالد علي حفني، فعدتُ أدراجي مرةً أخرى، وبعد خروجنا من المعتقل كنتُ أتابع سير قضية تنظيم الجهاد على صفحات الجرائد فقرأتُ من الأحكام: خالد علي حفني- 6 سنوات- فقلتُ في نفسي: الحمد لله الذي عافانا من هذه العلقة.

 

كانت التحقيقات- رغم دمويتها وفظاعتها- لا تخلو من الطرائف التي كنا نتندر بها فنضحك حتى يعلو صوتنا بشكلٍ كان يستفز الحراس ويكاد يُصيبهم بالجنون وكثيرًا ما نلنا السباب والشتائم بسبب هذا الضحك، وكان الواحد منهم يرى ما يلحق بنا من سوءٍ وتعذيبٍ ثم يسمعنا نضحك فيسأل بغضب وحنق: "بتضحكوا على إيه يا ولاد الـ....."

------------

*[email protected]