بذور التربية مريرة لكن ثمارها دائمًا تكون حلوة، والشجرة الطيبة أصلها ثابت وفروعها زاهية، يرميها الناس بالحجر فترميهم بأطيب الثمر.

 

من أعلام الدعوة الذين لا يعرف البعض عنهم شيئًا مَن قدموا الكثير في خدمة دينهم ودعوتهم ومضوا إلى ربهم، من هؤلاء المهندس عبد المنعم أحمد مختار مكاوي، فهو ينتمي إلى جيلٍ عاش مع الدعوة وبالدعوة لحظةً بلحظة، وقدَّم من أجلها كل غالٍ ورخيص، وتذوَّق مرارة العذاب والحرمان من حكامٍ عبدوا الكرسي والسلطان، جيل تحمَّل وطأةَ العذاب فصبر واحتسب وعمل، حتى أينعت هذه الثمار وترعرعت فأنبتت نباتًا حسنًا، وملأت الدنيا إيمانًا وعملاً بالقرآن.

 

المولد والنشأة
 
 الصورة غير متاحة

المهندس عبد المنعم مكاوي

وُلد المهندس عبد المنعم أحمد مختار مكاوي بقرية بشبيش مركز المحلة الكبرى محافظة الغربية في 20 مايو 1923م، في أسرة ثرية لكنها لم تفتنها الدنيا، فكان الأب محافظًا على السمت الإسلامي، وقد ربَّى أبناءه عليه، فخرجوا للدنيا محبين للإسلام والعمل له.

 

كان الشقيق الوحيد لخمسةٍ من الإناث كان لهم بعد ذلك بمثابة الأب والأخ، وكان لهم معينًا على نوازل الحياة، التحق بالتعليم الابتدائي ثم الثانوي والجامعة؛ حيث حصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة الإسكندرية عام 1947م، وبعد تخرجه عُيِّن مهندسًا زراعيًّا بمحافظة كفر الشيخ واستقرَّ بها، انتقل من بشبيش مع أسرته إلى كفر الشيخ، وظلَّ بها حتى وفاته.

 

على طريق الدعوة

أثناء الحرب العالمية الثانية شهدت الإسكندرية ترحيل أهلها بسبب الغارات التي كانت دول المحور تقوم بها بحجة أنها مأوى لجنود الحلفاء، وأغلقت الجامعة أبوبها وانتقل الطلبة أيضًا إلى دمنهور، فهذا التوقيت كان عبد المنعم في كلية الزراعة جامعة الإسكندرية فانتقل مع زملائه لكلية الزراعة بدمنهور؛ حيث اختيرت المدرسة الثانوية لتكون مقرًّا لها، في هذا الأثناء تعرَّف على دعوة الإخوان المسلمين، وأصبح جنديًّا مخلصًا لها، وتربَّى على يدي قائدها الأستاذ البنا؛ حيث غرس فيه معاني الصبر والتجرد لله، فتربَّى على يديه تربيةً أخلاقيةً وفكريةً فكان نموذجًا مُشرِّفًا في فهمه وسلوكه وجهاده، اختير ضمن أفراد النظام الخاص، وتربَّى على المعاني الجهادية التي كان يغرسها النظام في رجاله، كما تربَّى على حسن الطاعة والتجرد في الأعمال، شارك في حرب القنال عام 1951م بعد أن ألغى النحاس باشا رئيس الوزراء آنذاك معاهدة 1936م والتي كبَّلت مصر بالأغلال في فلك المصالح الإنجليزية.

 

محن وابتلاءات

كان لنشاطه الدعوي أثر كبير في لفت نظر البوليس السياسي له مما عرَّضه للمحن والابتلاءات فاعتقل عام 1948م، وتم اعتقاله في سجن الطور مع إخوانه إرضاءً للإنجليز واليهود، وبعد خروجه في فبراير 1950م وعودة الجماعة أخذ على عاتقه العمل للدعوة ونشرها في نطاق كفر الشيخ، فكان مثالاً للقائد المربي، ففي ذلك يقول الأستاذ علي أبو شعيشع- أحد الرعيل الأول للإخوان في كفر الشيخ-: "بلغتُ سن الثانية والثلاثين وأحسستُ بحاجةٍ ملحةٍ إلى الزواج وأحسَّ إخوان دمنهور بذلك فنشطوا، وكان على رأسهم الأخ (أحمد نجيب الفوال)، لكن لم يتيسر الحصول على الزوجة المطلوبة, ولما كان الأخ عبد المنعم مكاوي على صلةٍ وطيدةٍ بأُسر الإخوان فقد رأيتُ أن أفاتحه, وفي لقاءٍ بمنزله في سخا فاتحته برغبتي وأخذ يستعرض شقيقات الإخوان فوجدني على علمٍ بظروف بعضهن وعدم ارتياحي لهن, وإذا به يُفاجأني في أسلوبٍ مرح "خلاص يا سيدي عندي أختي.. تعال أجوزها لك ومتنعاش همَّ الفلوس.. ده طقم الصالون ونُجهز لك حجرة نوم"، وكانت مفاجأة, فأجبته بالموافقة, فاشترط أن أراها، وتمَّ ذلك وأردتُ أن استوثق بمعرفة شيء عن حياتها فاتصلتُ بالأخ جلال عبد العزيز- لأنه على معرفةٍ بهم- فأجابني على أسئلتي, وأخيرًا قررت الزواج بها لثقتي وحبي للأخ عبد المنعم وصارحتُ والدتي فوافقت, واتفقت مع أهل العروس على أن يكون البناء في يناير 1954م غير أنه لم يتم بسبب اعتقال أخيها في يناير 1954ولم يخرج إلا في مارس وتم الزفاف في 1/6/1954م.

 

لم يكد ينعم بالخروج من محنة يناير وزفاف أخته حتى وقعت حادثة المنشية في 26/10/1954م، وتمَّ اعتقاله وأُودع السجن الحربي حيث التعذيب الشديد وإهدار كرامة الإنسان فذاق مرارة العذاب إرضاءً للأمريكان، وقدِّم للمحاكمة والتي حكمت عليه بخمسة عشر عامًا "أشغال شاقة"، وظهرت الصحف تحمل صورته وخبر الحكم مما كان له وقع شديد على أمه وإخوته الذين كانوا يعتبرونه كل شيء في حياتهم، ورحل إلى سجن الواحات مع عددٍ كبيرٍ من إخوانه، وكان سجنًا يقع في صحراء الواحات ليس به سبل الحياة، وهو عبارة عن مخيم محاط بالأسلاك الشائكة، فكان الزائر يقطع المسافة إليه من خلال قطارٍ متهالك يقطع المسافة فيما يقرب من 24 ساعة ذهابًا ومثلها إيابًا، فكانت أمه وأخته وصهره يزورنه على فتراتٍ بعيدةٍ بسبب مشقة السفر، وفي إحدى المرات حاول الأمن إغراء والدته بأن تقنعه بكتابة خطاب تأييدٍ لعبد الناصر وهو سيُفرج عنه فورًا فاستعطفه صهره أن يكتب تأييدًا لعبد الناصر فما كان منه إلا أن ثار في وجهه وأمره ألا يعاود زيارته مرةً أخرى بسبب طلبه هذا وتراخيه وعدم صبرهم وأمره ألا يذكر ذلك له مرةً أخرى، وقال: "نحن نعلم تفكككم وانصرافكم عن الدعوة نتيجةً للإرهاب القائم؛ لذا فنحن حريصون أن نظل داخل السجون لنظل اليافطة المعلنة عن اسم الإخوان المسلمين".

 

نُقل مع بعض الإخوان إلى سجن المحاريق، وهو سجن من طابقٍ واحدٍ وسط الصحراء، وكان معه في السجن صديقه الأستاذ جلال عبد العزيز، وعند الزيارة أمسكت أم جلال به قائلةً له: "إن عبد المنعم قُبض عليه وعُذِّب عذابًا شديدًا فلم يهن فلو نطقت بشيء هقطع لسانك"، أُصيب بمرضٍ خطيرٍ في عينه فحول للعلاج في القاهرة وأودع سجن مصر.

 

قضى الأستاذ عبد المنعم الخمسة عشر عامًا كاملاً- وهي مدة العقوبة- وبدلاً من أن يُفرج عنه حول لمعتقل ليمان طرة بقرار اعتقال، وظل فيه حتى أُفرج عنه عام 1970م بعد وفاة عبد الناصر، بعد خروجه كان عمره قد تقدَّم ولم يكن قد تزوَّج بعد، ولم ترضَ به زميلته لكبر سنه، لكنَّ الله عوضه بالزواج من كريمة ابنت عمه وتمَّ الزفاف في نادي الزراعيين بالمحلة وشاركه الزفاف الأخ جلال عبد العزيز الذي عقد قرانه في نفس اليوم بالإسكندرية، وجاء بعروسه للمحلة ليتم الزفاف مع أخيه عبد المنعم الذي رافقه داخل السجن وخارجه، ورزقهما الله بالبنين والبنات.

 

واستقرَّ في حياته ودعوته حتى جاءت اعتقالات سبتمبر 1981م، فاعتقل في 22/10/1981م، وقضى أربعة أشهر مع صهره الأستاذ علي أبو شعيشع في سجن بور سعيد، وابن أخته الدكتور حسن في سجن المنصورة ثم الليمان وأفرج عنه بعد مقتل السادات في فبراير 1982م، فقضى زهرة شبابه خلف الأسوار إرضاءً لرب العالمين صابرًا محتسبًا لله.

 

عبد المنعم الداعية المربي

بعد خروجه من المعتقل وهب نفسه لخدمة دعوته والعمل لها في السراء والضراء، كما لم ينس الجوانب الإنسانية والاجتماعية في حياته فقد اعتنى بتربية الشباب وغرس فيهم المعاني الحية وعمل هو وإخوانه بكفر الشيخ الأستاذ علي أبو شعيشع والأستاذ جلال عبد العزيز على ترسيخ معان الدعوة في نفوس الناس فغرسوا الغرس وأثمر نباتًا يانعًا من الشباب الذين أصبحوا ملأ السمع والبصر، وانتشرت الدعوة بمعانيها المعتدلة وسط الشباب والتحق الكثيرين بركب الإخوان في المحافظة.

 

كان الأستاذ عبد المنعم مكاوي الأب الحنون والمربي الصالح، وبالرغم من مشاغله الجسام والتي كانت تتمثل في كونه عضوًا بمكتب الإرشاد بل ومسئولاً عن قطاع وسط الدلتا وما تتطلبه من مهامٍ جسامٍ إلا أنه لم ينس تربية الشباب، ومما أذكر من المواقف الشخصية التي عايشتها أثناء ما كنت في المرحلة الجامعية بكفر الشيخ فكنا موضع اهتمامه ورعايته، فكان وإخوانه لنا رجالاً حملوا الدعوة بقلوبٍ طاهرة وأفئدة زكية، فعندما اندلعت المظاهرات في كليات كفر الشيخ للتنديد بالتحرش الأمريكي بضرب العراق في فبراير 1998م كان المجاهد العظيم يجول بالسيارة- رغم كبر سنه- ومعه الدكتور حسن أبو شعيشع أمام الجامعة ليطمئن أن الأمور تسير بسلام، وكان سؤاله الأول كيف حال الطلاب؟ أحدث لهم مكروه، ولم يهدأ قلبه حتى اطمئنَّ أن الجميع بسلام، معانٍ حية رسخت في القلوب، وشموع أضأت قلوب الشباب بعد وفاة هؤلاء المجاهدين.

 

لقد كان الأستاذ عبد المنعم مثالاً حيًّا لمعاني الصبر والتجرد، فيقول الأستاذ محمود أبو رية: "إن من الملفت للنظر أن الصابرين في المحن من أفراد الصف كانوا من الذين لا يحملون مسئوليات؛ لأنهم لم يتخلفوا عن أي محضنٍ تربوي بخلاف بعض القادة الذين لم يمروا على هذه المحاضن، فإن دعوتنا في المحن فضَّاحة".

 

لقد تحمَّل الحياة بقسوتها ومرارتها فبعد وفاة والده أصبح هو العائل الوحيد لأمه وأخواته البنات، فكان يتميز بحرصه الشديد على صلة الرحم، فكان يخصص لكل أختٍ وقتًا معينًا يزورها فيه، هذا بخلاف المناسبات ونجاح أبنائهن.

 

كما كان شديد الحرص على خدمة أخته التي لم تنجب، فيذكر الدكتور حسن أبو شعيشع أنه أثناء عودتهم من أحد اللقاءات قال له: تعال نأتِ لخالتك بالعليقة، ودخل المصنع واشترى جوال عليقة وذهبوا لها، فأراد الدكتور حسن أن يحمله ليصعد به إلى السطوح لكنه أبى إلا أن يحمله هو حتى السطوح ويُعطيه لأخته ويُغادر، كما كان بمثابة الأب لبيوت الإخوان فكان يعمل على المشاكل بين الأزواج مهما كانت أماكنهم في المحافظة، وخارج المحافظة، بل كان يوجد في الصلح بين الأم وزوجة الابن، وإذا أرسل له أحد الإخوان الموجودين بالخارج مالاً ليوصله لأهله كان يقوم بنفسه فيسافر ليطمئن على أهل الأخ ويسلمهم المال، وفي أثناء اللقاءات ما كان يكلف أخ بعمل شيء بل كان يُقدِّم الأمر على هيئة اقتراحٍ، ومع ذلك تراه بسيطًا في حياته فلا يشعر به أحد بسبب بساطته مع الجيران ومشاركتهم في تنظيف الشوارع، كما كان يقوم بنفسه بتنظيف المكان أمام مكتبة الدعوة التي كان يمتلكها الإخوان في كفر الشيخ.

 

لقد كان بمثابة الأب والقائد والشيخ والمربي، وقبل رحيله- عليه رحمة الله- أوصى إخوانه بالشباب خيرًا فكانوا موضع رعاية خليفته ورفيقه في المعتقل الحاج جلال عبد العزيز أمدَّ الله في عمره.

 

ويذكر الأستاذ أبو زيد الطنوبي أنه كان يتوجَّه مع الأستاذ علي أبو شعيشع إلى أحد الكتائب فيطلب منه الحاج علي الحديث فكان يجيبه بقوله: "لقد جئت معك كسائق لك لا متحدثا".

 

فراق ووداع

رحل المهندس عبد المنعم مكاوي عن عمرٍ ناهز الخامسة والسبعين عامًا، فقد تُوفي في يونيو 1998م بعد حياةٍ حافلةٍ بالجهاد في فلسطين والقنال، ودُفن في مسقط رأسه بشبيش- وهي مسقط رأس الطاغية حمزة البسيوني- وقد شيَّعته جموع غفيرة من الشباب والشيوخ، وأذكر أننا كنا في ذروة الامتحانات وعندما علمنا بالخبر تواجدنا في مكان تحرك الموكب المتجه إلى بشبيش، وكنا موضع رعاية الإخوان، فقد أتوا لنا بأتوبيس ذهبنا فيه لتشييع الجنازة وأعادنا مرةً أخرى لندرك المذاكرة، وقد شاهدت موكبًا لم أرَ مثله من السيارات متجهًا لحضور الجنازة، وقد حضر جنازته فضيلة الأستاذ مصطفى مشهور- عليه رحمة الله- المرشد العام للإخوان آنذاك.. رحمهم الله رحمةً واسعةً وألحقنا بهم شهداء، وثبتنا على طريق دينه ودعوته.

------------

* باحث تاريخي- [email protected]

** المراجع:

1- علي أبو شعيشع: يوميات بين الصفوف المؤمنة، الطبعة الأولى، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1421هـ،2000م.

2- حوار شخصي مع الدكتور حسن أبو شعيشع، يوم 2/9/2007م.

3- حديث شخصي مع الأستاذ أبو زيد الطنوبي يوم 2/9/2007م.