ما أشبه اليوم بالأمس!، ويا له من تطابقٍ في الصفات والخصال!، وكأن الحق سبحانه وتعالى يسطِّر في كتابه الكريم أحداثًا عظامًا؛ خلَّدها الحق لحكمةٍ يعلمها، قد يكون منها أن يقول للناس: أيها الناس.. اعلموا أن أعداء هذا الدين وما يحملونه من غلٍّ وحقدٍ إنما هم على نفس الصفات والخصال في كل زمان ومكان.

 

آلمني كلَّ الألم حكمُ المحكمة العسكرية على إخوانٍ لنا شرفاء أطهار، نحسبهم كذلك ولا نزكِّي على الله أحدًا، وجال في خاطري وأنا أسمع همسات المتعاطفين ولمزات الشامتين: إلى متى يتحمَّل الصف الإخواني هذا الظلم؟! أوليس انتصار الباطل وانتفاشه دليلَ صحة لما يدعو إليه؟! ماذا قدَّم الإخوان لمصر غير الشعارات؟ أين هو الحل الذي يدَّعيه الإخوان، الحل السحري الذي سيقلب حال مصر من هذا الفقر المدقع الذي يستشري بين الناس فيحوله إلى جنات وأنهار؟!.

 

رحم الله أستاذًا ومربيًا ومرشدًا لنا هو المرحوم بإذن الله تعالى الأستاذ عمر التلمساني؛ حين سألوه عن هدف الإخوان المسلمين من دخول مجلس الشعب؟ فأجاب: "إن هدف الإخوان من دخول مجلس الشعب هو المطالبة بتطبيق شرع الله عز وجل، والعودة إلى الله سبحانه وتعالى؛ ففي ذلك كل الخير للمسلمين ولمصر".

 

تذكَّرت وأنا أسمع هذا الكلام أننا في حاجةٍ إلى مراجعة للنفس، نعم.. نحن نكشف ونحارب الفساد، ونوَّابنا يقدِّمون الاستجواب تلو الاستجواب، ولكن أن نأخذ الموقف الثابت ونصرُّ عليه ونعلنه صباح مساء أن شرعة الله يجب أن تسود، وأنه لا نجاة لنا ولمصر إلا بتطبيق شرع الله؛ حتى يُرفع عنا البلاء.. فهذا ما نريد أن نؤكِّده.

 

إن الفساد القائم والمستفحل في كل مكان ما هو إلا أعراض مرض لا نجاة لنا منه إلا من خلال القضاء عليه.. إنه غياب شرعة الله عز وجل عن واقع المسلمين حكامًا ومحكومين إلا من رحم ربي، من أجل هذا كان وسيظل الإسلام هو الحل.

 

أعود لإخواننا المسجونين، فأرى كل الظلم وكل الجبروت؛ أناس شرفاء لم تستطع الحكومة والقائمون عليها إثبات ولو بدليل واحد أن هؤلاء مذنبون آثمون، إنما جاءت البراءة أكثر من مرة، فما كان منهم إلا أن حوَّلوهم إلى المهزلة العسكرية، وصدق الحق سبحانه وتعالى (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج: 8).

 

ما أصدق كلمات شهيد الدعوة سيد قطب وهو يصف قصة أصحاب الأخدود وكأنه يصف حالنا اليوم فيقول في نهاية المعالم: "لم يكن بدٌّ من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون، ولا يؤخذ الظالمون؛ ذلك ليستقر في حسِّ المؤمنين، أصحاب دعوة الله، أنهم قد يدعون إلى النهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله، وأن ليس لهم من الأمر شيء، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله.

 

إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة، وأن يصدقوا الله في العمل والنية، ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء، وينتهي بهم إلى نهايةٍ من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه.

 

إنهم أجراء عند الله؛ أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم، وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير؛ فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينةً في القلب، ورفعةً في الشعور، وجمالاً في التصوُّر، وانطلاقًا من الأوهاق والجواذب، وتحرُّرًا من الخوف والقلق في كل حال من الأحوال.

 

وهم يقبضون الدفعة الثانية في الملأ الأعلى؛ ذكرًا وكرامةً وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة، ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حسابًا يسيرًا ونعيمًا كبيرًا، ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعًا؛ رضوان الله، وأنهم مختارون ليكونوا أداةً لقدره، وستارًا لقدرته؛ يفعل بهم في الأرض ما يشاء".

 

"إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال، ومدبر هذا الكون كله، المطلع على أوله وآخره، المنسق لأحداثه وروابطه، هو الذي يعرف الحكمة المكنونة في غيبه المستور، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل.

 

وفي بعض الأحيان يكشف لنا بعد أجيال وقرون عن حكمة حادثٍ لم يكن معاصروه يدركون حكمته، ولعلهم كانوا يسألون: لماذا؟!.. لماذا يا رب يقع هذا؟! وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقَّاه المؤمن؛ لأنه يعرف ابتداءً أن هناك حكمةً وراء كل قدر، ولأن سعة المجال في تصوُّره، وبُعدَ المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تُغنِيْهِ عن التفكير ابتداءً في مثل هذا السؤال، فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان.

 

لقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدُّها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع، وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء، إلى شيءٍ في هذه الأرض، ولا تنظر إلا إلى الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله.. قلوبًا مستعدةً لقطع رحلة الأرض كلها نصبًا وشقاءً وحرمانًا وعذابًا وتضحيةً حتى الموت، بلا جزاء في هذه الأرض قريب، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين؛ بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين.

 

حتى إذا وُجِدَت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطيَ بلا مقابل، أي مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للفصل بين الحق والباطل.. حتى إذا وُجِدَت هذه القلوب، وعلم الله منها صدق نيَّتها على ما بايعت وعاهدت، آتاها النصر في الأرض، وأتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي، وهي أهلٌ لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تُعطاه، وقد تجرَّدت لله حقًّا يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه".

 

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج: 8).. هناك حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل؛ إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئًا آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة.. إنها ليست معركةً سياسيةً، ولا معركةً اقتصاديةً، ولا معركةً عنصريةً، ولو كانت شيئًا من هذا لسَهُلَ وقفُها، وسَهُلَ حلُّ إشكالها، ولكنها في صميمها معركة عقيدة.

 

إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة، وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدوًّا لهم؛ فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة (إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع.

 

وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة رايةً غير راية العقيدة؛ رايةً اقتصاديةً أو سياسيةً أو عنصريةً؛ كي يموِّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة؛ فمن واجب المؤمنين ألا يُخدعوا، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويهٌ لغرض مُبيَّت، وأن الذي يغيِّر راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها؛ النصر في أية صورة من الصور، سواءٌ جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود، أو في صورة الهيمنة الناشئة من الانطلاق الروحي، كما حدث للجيل الأول من المسلمين.

 

ونحن نشهد نموذجًا من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة، وأن تزوِّر التاريخ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستارًا للاستعمار، كلا.. إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخرًا هو الستار للروح الصليبية التي لم تَعُدْ قادرةً على السفور كما كانت في القرون الوسطى، والتي تحطَّمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر، وفيهم صلاح الدين الكردي، وتوران شاه المملوكي، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة.. (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وصدق الله العظيم، وكذب المموهون الخادعون".

 

رحم الله الشهيد، وأسكنه فسيح جناته؛ فما زالت كلماته معالم طريق للحركة الإسلامية؛ تضيء لها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.