كان اجتماع مجلس الوزراء غايةً في السخونة؛ فلقد عنَّف رئيس الوزراء وزير الزراعة بشدة وحمَّله مسئولية عدم تنفيذ خطة وزارته العام المنصرم وتآكل المساحة المزروعة من القمح بدلاً من زيادتها؛ مما يؤثر على الإنتاج المحلي من القمح الذي لا يكفي سوى 40% من إجمالي الاستهلاك المحلي؛ مما يُدخل البلاد في مشكلة كبيرة في توفير بقية الاحتياجات من السوق العالمي بأسعار مرتفعة مما له من تأثير مباشر على اقتصاد البلد، ناهيك عن أن القمح يعتبر أمنًا قوميًّا لبلدٍ تعتمد على رغيف الخبز كوجبةٍ أساسية.

 

كان رئيس الوزراء في قمة الغضب.. صرخ في وجه السادة الوزراء قائلاً: "كده البلد في خطر، ح نرجع تاني لعصر الطوابير.. طوابير على العيش، وطوابير على بنزين 80، وطوابير حتى على الحديد".

 

أمر باستدعاء أكبر الخبراء في مجال الزراعة فورًا للاجتماع.. لم تَمْضِ الساعة وحضر الخبراء بين يدي رئيس الوزراء.. بادرهم الرئيس قائلاً: "ما يحدث في بلادنا فضيحة!.. عندنا المياه والأراضي الشاسعة، والعمالة متوفرة بكثرة، بل وتعاني من البطالة، ولا نستطيع أن نكتفيَ من القمح.. أريد حلاًّ لموضوع توفير القمح لحل مشكلة رغيف الخبز".

 

تبادل الخبراء الحوار وأجمعوا على عدة نقاط مهمة؛ أهمها:

(1) التوسع الرأسي بزيادة إنتاجية الفدان عن طريق استخدام "تقاوي" جيدة مجرَّبة في مراكز الأبحاث الوطنية بدلاً من بعض التقاوي المشبوهة التي يتم استيرادها من إحدى الدول.

 

(2) التوسع الأفقي في زيادة المساحة المزروعة من القمح على حساب الأصناف غير الضرورية، مثل الكانتلوب والخيار والفراولة.

 

(3) زراعة ملايين الأفدنة عالية الخصوبة ذات التربة السوداء بالسودان، والتي لا تحتاج إلا لبذر التقاوي فقط.

 

(4) العمل على ترشيد الاستهلاك بالتوعية وحسن صناعة رغيف الخبز؛ حتى لا يكون هناك فاقد كبير منه.

 

(5) زيادة عدد الصوامع لتخزين القمح؛ حيث إن الطاقة الحالية للصوامع تبلغ طاقتها نحو ‏2.5‏ مليون طن سنويًّا، ونحن نحتاج إلى مضاعفة هذه الكمية لنصل إلى خمسة ملايين طن من القمح لتقليل الفاقد من سوء التخزين.

 

(6) جعل أولوية توفير المياه لزراعة القمح بدلاً من استنزافها في ملاعب الجولف؛ حيث إن كمية المياه التي تُهدر في نادي جولف واحد لمدة أيام ثلاثة تكفي لري مائة فدان!!

 

بعد أن انتهى الخبراء من وضع المقترحات نظر رئيس الوزراء إلى وزير الزراعة وقال له: "ما رأيك في هذه المقترحات؟".

 

ابتسم الوزير وقال: "مع احترامي للسادة الخبراء، فإنني أري أن السبب الرئيسي في مشكلة القمح هي زراعة البرسيم بدلاً من القمح؛ حيث إن عائد زراعته أكبر ودورته أسرع، كما أن آخر الإحصائيات تقول إن المساحة المزروعة في بلادنا 9 ملايين فدان؛ منها 2.5 مليون فدان برسيم؛ وذلك لاعتماد الفلاحين على البرسيم كغذاء رئيسي للمواشي ولأكثر من 1.3 مليون حمار وبغل وحصان في البلد"!!

 

تدخل أحد الخبراء في الحوار وقال: هذه كارثة أخرى، وهدر آخر للمياه؛ لأنه إذا كان معدل استهلاك الفدان الواحد لزراعة محصول زراعي أساسي (كالقمح) يتراوح بين 7 إلى 8 آلاف متر مكعب من المياه فإن فدان البرسيم يستهلك أكثر من 21 مترًا مكعبًا بمفرده".

 

نظر رئيس الوزراء بتعجب للحوار والسجال الدائر وقال: "الحل هو إعدام الحمير واستبدال البرسيم المزروع بقمح فورًا"، وأضاف: "يا وزير الزراعة.. سيادتك تركت الفلاحين يزرعون برسيمًا والشعب يجوع، خلي بالك الشعب.. لو أكل برسيم مش في صالحنا، حيرفسنا طوَّالي" فأنفجر جميع الجالسين في الضحك!!

 

رفع وزير البيئة يده وقال: "يا ريس.. الحمار هو الآن صديق الفلاح بعد أن مات أبو قردان بالمبيدات المسرطنة، والحمار صديق أيضًا للبيئة، ولا يصدر عنه أي تلوث سوى تلوث سمعي وبعض المخلفات التي يُستفاد منها وتستخدم كسماد عضوي.."

 

قطع حديثه أحد الوزراء السياديين وقال: "هو التلوث السمعي شوية؟!.. الحمار بيعلم الناس الصوت العالي والصراخ، وده مش كويس علشان البلد".

 

فجأةً.. قال وزير الاتصالات: "وجدتها.. وجدتها، بما إننا حكومة إلكترونية، وبدل من الاقتراحات غير الإلكترونية التي قالها الخبراء من زيادة إنتاجية الفدان وزيادة المساحات وأبصر إيه.. نقوم باستبدال جميع الحمير الموجودة بحمير آلية يتم شحنها بالكهرباء وتغني أغاني وطنية تحفز الهمم وتزود إنتاجية الفلاح، وكده ولا برسيم ولا صوت عالي ولا دياولو".

 

تهللت أسارير رئيس الوزراء وقال: "رائع.. رائع، وكده تكون الأمور تحت السيطرة: القمح ح يزيد، وما فيش برسيم، والطوابير تختفي، والعيش يتوفر والناس تبقى مبسوطة، وده حل أسهل وأوفر من استصلاح أراضي ووجع دماغ".

 

فعلاً تم الموافقة في لحظات بالإجماع على اعتماد مبلغ 2 مليار دولار لاستيراد مليون حمار آلي من الصين فورًا بسعر 2000 دولار للحمار الآلي الواحد.

 

فجأةً.. وقف الوزير السيادي مرةً أخرى وقال: "يا ريس.. يا ريس.. حضرتك نسيت مشكلة كبيرة جدًّا".. قال رئيس الوزراء: "خير".

 

قال الوزير: "إنت ح تعدم أكثر من مليون حمار ممكن يعملوا مشاكل كبيرة ويقوموا بوقفاتٍ احتجاجية ومظاهرات ويخاطبوا جمعيات الرفق بالحيوان في الخارج والدنيا تنقلب علينا، هذا غير حب الشعب للحمير، ده حتى عملوا للحمار أغنية اسمها بحبك يا حمار".

 

سكت رئيس الوزراء قليلاً وقال: "كلامك مظبوط.. خلاص نخلي الحمير كما هي ونضحي بالمواطن أسهل".

--------

* مدير مركز ضحايا لحقوق الإنسان- [email protected]