إن الوقوفَ على قيمة المضحك في الأدب العربي، لن تتأتى دون رصدَ التطور الذي لَحِقَ به، ومن ثَمَّ؛ فجديرٌ بنا أن نتساءل عن العلاقة بين النادرة، كأول صورةٍ فنيةٍ للمضحك في النثر العربي، وبين الرسالة كأول تطور لحق بالمضحك بعد النادرة، ما كنه هذه العلاقة؟ وما قيمتها؟

 

والوقوف على حقيقة هذه العلاقة يمكن أن يضيء جوانب الطريق أمامنا في محاولة تحديد التطور الذي لحق بالمضحك؛ حيث لا يكفي أن نقول: إن الرسالةَ كانت تطورًا فنيًّا لحق بالمضحك ظهرت فيه ذاتية المؤلف، وزادت المساحة الزمنية للفكاهة والسخرية والهزل عمَّا كانت عليه في النادرة؛ لأن هذه الحقائق لا تحدِّد علاقة مباشرةً-  يركن إليها البحث باطمئنان- بين كلٍّ من النادرة والرسالة.

 

إن الجاحظ لمْ يظهر في رسالته "التربيع والتدوير" التأثير المباشر للنادرة، ويرجع ذلك إلى الشكل الفني الذي انتهجه، ولكننا نجد هذا التأثير المباشر- الذي نعنيه- في الرسائل الهزلية بصورةٍ ما، غير أننا نود أن نُسجِّل أهمية هذا الجانب لضآلةِ الرسائل الفكاهية من ناحيةِ الكمِّ بالمقارنة بالنوادر التي تتفوق كثيرًا في هذا الجانب، أي إن قيمة الرسائل الفكاهية تأتي ممَّا أحدثته من تطورٍ في مسيرة المضحك، ولمَّا كانت الرسائل غير مهيأة لاستيعاب أشكال المضحك كافة- لطبيعتها وشكلها الفني- فإن استحداث شكل آخر أكثر مواءمة كان هو الحل الأمثل، وقد تحقق ذلك في المقامة.

 

يبقى هذا التحليل مجرَّد ظن وتخمين إن لم يقم عليه الدليل الذي يثبت وضوح هذه الرؤى في أذهان كُتَّاب الرسائل أو معاناتهم الفنية- إن صحَّ التعبير- في محاولةِ البحث عن الشكل الفني الذي يستوعب إبداعاتهم، وكذلك يُثبت العلاقة المادية بين هذه الأشكال المختلفة.

 

وأول ما يواجهنا من التأثير المباشر للنادرة في الرسالة هو قول "أبي إسحاق الصابي" في عهد التطفل: "وقد بلغنا أن رجلاً من العصابة كان ذا فهم ودراية، وعقل وحصافة، طفّل على وليمة، لرجل ذي حالٍ عظيمة، فرمقته فيها من القوم العيون، وصُرفت بهم فيه الظنون، فقال له قائلٌ منهم: مَن تكون أعزَّك الله؟ فقال: أنا أوّلُ من دُعي إلى هذا الحق. قيل له: وكيف ذاك ونحنُ لا نعرفك؟ فقال: إذا رأيتُ صاحب الدار عرفني وعَرَّفْتُه نفسي. فجيء به إليه، فلما رآه بَدَأَه بأن قال له: هل قُلتَ لطباخِك: أن يصنع طعامك زائدًا على عدد الحاضرين، ومقدار حاجةِ المدْعُوِّين؟ قال: نعم! قال: فإنما تلك الزيادة لي ولأمثالي، وبها يُسْتظهَر لمن جَرَى مَجْراي، وهي رزقٌ لنا أنزله الله على يدك وبك، فقال له: كرامةً ورُحبًا، وأهلاً وقربًا، والله لا جلستَ إلا مع عليةِ الناس وُوُجوه الجلساء، إذْ أطرفت في قولك، وتفننت في فعلك، فليكن ذلك الرجلُ إمامًا يُقتدى به، ويقتفى طريقه، إن شاء الله" (1).

 

هذه نادرة ضمنها أبو إسحاق رسالته، وقد قام بصياغتها بما يتماشى مع الشكل الفني للرسالة وأسلوبها المتشح بالسجع، ولسنا في حاجةٍ إلى أن نبحث عن أصول النادرة لإثبات ذلك، فالأمر من الوضوح بما لا يدع مجالاً للشك، غير أن الخطيب البغدادي روى أصل النادرة في كتابه "التطفيل" على النحو التالي:

"أنبأنا الحسين بن محمد بن جعفر الرافعي... أنبأنا أحمد بن الحسن المقري قال: قيل لبنان مَن دخل إلى طعام من غير أن يُدعى إليه دخل لصًّا وخرج مُغيرًا، قال: ما أكله إلا حلالاً. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أليس يقول صاحب الوليمة للخباز: زد في كل شيء، وإذا أراد أن يُطعم مائة قدَّر لمائة وعشرين فإنه يجيئنا مَن نريد ومَن لا نريد. فإنا مما لا يريد) (2).

 

قد لا تكون هناك قيمة فنية حقيقية لمثل هذا التضمين أو الاقتباس من النوادر، غير أن بديع الزمان الهمذاني قد استخدمه بما يؤكد أهمية النادرة كمصدر أول للفكاهة والضحك في الأدب العربي، إذ لم يكتف بالاقتباس والتضمين، ولكنه أنشأ رسالته كاملةً معتمدًا على النادرة، ومن ذلك تعامله مع النادرة التالية:

"قال أبو عبد الله بنُ الأعرابي: كنت جالسًا بالكوفة، فرأيتُ أعمى قد وقف بنخاس، فقال له: يا نخاس! اطلب لي حمارًا ليس بالكبير المشتهر، ولا الصغير المحتقر، إن خلا الطريق تدفق، وإن كثُر الزحام ترفق، لا يصادم بي السواري، ولا يدخلني تحت البواري، إذا أقللت علفه صبر، وإذا أكثرته شكر، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري قام، قال له النخاس: يا عبد الله! إن مُسخ القاضي حمارًا ظفرت بحاجتك!" (3).

 

لقد أخذ الهمذاني هذه النادرة وأعاد صياغتها على شكل رسالة جاء فيها:

"وقد احتيج في الدار إلى بقرة يحلب درّها، فلتكن صفوفًا تجمعه بين قعبين في حلبة، كما تنظم بين دلوين في شربة، وليملأ العين وصفها، كما يملأ اليد خلفها، وليزن مشيها سعة الذرع، كما يزين درها سعة الضرع، ولتكن عوان السن، بين البكر والمسن، ولتكن طروح الفحل، رموح الرجل، وليصفُ لونها، صفاء لبنها، وليكن ثمنها كفء سمنها، ولتكن رخصة اللحم، جمة الشحم، كثيرة الطعم، سريعة الهضم.....".

 

ويستطرد في وصف البقرة ثم يختم رسالته بقوله :

"ولا أظنك تجدها اللهم إلا أن يُمسخ القاضي بقرةً وهو على رأي التناسخ جائز....." (4).

وعلى الرغم من شهرة النادرة نجد الدكتور مصطفى الشكعة لا يلتفت إلى هذا الأمر حين عرض لهذه الرسالة (5) في كتابه (الأدب في موكب الحضارة) وقبل ذلك في رسالته عن (بديع الزمان الهمذاني رائد القصة العربية والمقالة الصحفية) الذي أنشأ فيه فصلاً للحديث عن "خصائص وسمات في أسلوب رسائل بديع الزمان" سجل فيها حرص "بديع الزمان" على الاقتباس من القرآن الكريم، ومن الشعر وكذلك من الأمثال والحكم ولم يشر إلى النوادر إلا في كلمات مبهمة (6).

 

ولم تكن هذه الرسالة هي الوحيدة التي أنشأها الهمذاني على هذا النحو فهناك رسالة أخرى جاء فيها:

"النادرة أطال الله بقاء القاضي تبطئ، ولا تخطئ، وفي مضحكات الأحاديث، أن عدة من المخانيث، قدموا إلى أمير فضرب أحدهم بالسياط وهو ينشده بالله العظيم، وكتابه الكريم، ورسوله الأمين، ويُذكِّره الدين وحرمة المسلمين، والسياط تُوفيه نصيبه، والمخنث يجعل الله حسيبه، ثم قدم الباقون فعمل بهم، ما فعل بصاحبهم، فقال الأخير: يا حمير، كذا يحلف الأمير، اصبروا حتى أقدم، واسمعوا حتى أتكلم، فلما جرَّد للسياط قال: أيها الأمير بحياةِ والدتك إلا عفوت عني، فقد أخذ الخوف مني، فغضب الأمير وقال: علي بالسياط، حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، مالك ولذكر الحرم، فحلفه المخنث بطرتها ثم بغرتها، ثم صار إلى ثغرها، ثم تدحرج إلى سرتها، فلما انتهى إلى السرة، أشفق الأمير على الحرة، فقال: خلوه، قد والله بلغت السرة أو زدت، وصرت إلى الدرة أو كدت، وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال، وهل بعد الشر إلا النكال، لا يفعل القاضي أيَّده الله آخر السرة، أول الغرة، ما له ولأصحاب الحديث، والله لينتهين عن علمائهم وهو كريم، أو لينتهين وهو لئيم، وهذا الفقيه ميمون وإن بعد عن داره، فلم يبعد عن مقداره، وإن لم تحضر أقاربه فهذي عقاربه، لفظة "أف"، فإن لم تغن فجلاميد تملأ الأكف، ثم الله أعلم بما في الخف، والشر قبيح أنواعه، فليكفَّ عن سماعه، ووراء هذه الجملة تفصيل، وهَمٌّ طويل، وقال وقيل، وخطب ثقيل، فإن أراح أرحت، وإن أحوج شرحت) (7).

 

والنادرة التي استخدمها الهمذاني- وأشار إليها في بداية الرسالة مفصحًا عن مصدره بتحديد النادرة ومضحكات الأحاديث! هي:

"قال المدائني: أُتِيَ والٍ برجلٍ قد جنى فأمر بضربه فَمُدَّ، فلما أخذهُ الضرب، قال للوالي: بحق رأس أمك عليك لما عَفَوْتَ عني. قال: اضربْ، قال: بحقِّ عينيها. قال: اضرب، قال: بحق خديها، قال: اضرب. قال: بحقِّ نحرها، كل ذلك يقول اضرب، فقال الوالي: ويلكم خَلُّوهُ لئلا ينحدر" (8).

 

إذن فلم تكن النادرة غائبة عن الأذهان ووجدنا الأدباء حين شرعوا في إنشاء الرسائل الفكاهية، يعدّونها مصدرًا مهمًّا للاقتباس والتضمين، وتمثل المادة الكاملة للرسالة كما نجدها في بعض رسائل الهمذاني.

 

لقد استطاع الهمذاني بطريقته الفنية هذه، أن يضيف "الحدث" إلى الرسالة، وهو ما كانت تفتقده، واستطاع أيضًا أن يعيد صياغة النادرة في أسلوب أدبي رفيع مزين بأشكال الصنعة المتمثلة في السجع محافظًا على النادرة في الوقت نفسه.

 

تزداد قيمة هذه المحاولة الفنية لصدورها عن "بديع الزمان الهمذاني" لأنها تصور معاناته الفنية في البحث عن شكلٍ يرضي موهبته في الإضحاك، فإذا كانت النادرة لا تصلح للإبداع الذي يستوعب ذاتية المؤلف، وتحتل السخرية والهزل مساحة كبيرة فيه، كما أنها لا تصلح للتعبير عن الأحداث ذات الطابع الدرامي... إلخ، فها هو "بديع الزمان" يحاول تطويع الرسالة لعلها تلبي حاجاته الفنية متكئًا على النادرة التي تمثل الرافد الأول والهام للفكاهة العربية.

 

إن قيمة هذه المحاولات لا تقف عند إيجاد صلة بين النوادر والرسائل، بل تتعدى ذلك إلى ربط كليهما بالمقامة؛ وذلك لصدور هذه المحاولات عن الهمذاني؛ حيث كان مهمومًا بالوصول إلى شكلٍ يستوعب موهبته وإبداعاته، كما تفسِّر لنا هذه الرسائل أن المقامة لم تولد مصادفة على يديه، تمامًا كما كان الجاحظ أهلاً لإنشاء "التربيع والتدوير" بما يملكه من ثقافة وقدرة على السخرية، وبدرايته بفنون الضحك، كذلك يمكننا القول، إن الهمذاني كان أهلاً لإنشاء المقامة شكلاً فنيًّا جديدًا ملائمًا لاستيعاب ما طرأ على المضحك من تطور على أيدي الأدباء.

 

ومن الجدير بالالتفات هو أن الرسائل الفكاهية كانت تمهيدًا للموضوعات التي تعتمد على الكدية والاحتيال ممّا ظهر بشكلٍ واضحٍ في المقامة، ورسالة (عهد التطفيل) نموذج لذلك.
ونُسجِّل أيضًا أن السجع عند الهمذاني كان مميزًا إذ كان يلتزمه، لا يحيد عنه، كما تتضح شخصيته فيه بارزة، ومَن يقرأ بعض رسائله لا يُفرِّق بينها وبين بعض مقاماته خاصةً حينما يستجدى العطاء أو يفحش في السباب والتشاتم ومن ذلك (... رقعة إلى مستميح عاوده مرارًا) يقول فيها:

"عافاك الله مَثَلُ الإنسان، في الإحسان، مثل الأشجار، في الإثمار، سبيل مَن أتى بالحسنة، أن يرفه إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتولع بالجود، ولكن هذا الخلق النفيس، لا يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم، ليس يحتمله الغريم، ولا قرابةَ بين الأدب، والذهب، قلما جمعت أبينهما، والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولا مع الأدب نادرة جهدت في هذه الأيام بالطباخ، أن يطبخ من جيمية "الشماخ" لونًا فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتاب، فلم يقبل، واحتيج في البيت، إلى شيء من الزيت، فأنشدت شيئًا من شعر "الكميت" ألفًا ومائتي بيت، فلم يغن ولو وقعت أرجوزة "العجاج"، في توابل السكباج، ما عدمتها عندي، ولكن ليست تقع، فما أصنع، فإن كنت تحسب اختلافك إليّ، إفضالاً عليّ فراحتي، ألا تطرق ساحتي، وفرجي، ألا تجي، والسلام) (9).

 

تظهر في هذه الرسالة السمات التي طبع بها الهمذاني مقاماته من حرصه على السجع الذي كان يقوده إلى الصور الطريفة كقوله: "واحتيج في البيت، إلى شيء من الزيت، فأنشدت شيئًا من شعر الكميت،..... إلخ".

 

كما أن موضوع المقارنة بين الأدب والذهب من الموضوعات المفضلة في المقامة.

 

وخلاصة القول: إن الرسائل الفكاهية على قلة عددها كانت حلقة مهمة في مسيرة المضحك لا يمكن إغفالها أو تجاهلها؛ إذ إنها تُفسِّر محاولات الأدباء في البحث عن شكلٍ فني يستوعب احتياجاتهم وإبداعاتهم قبل أن يصل بديع الزمان الهمذاني إلى المقامة.

-----------

* الحواشي:

(1) صبح الأعشى- القلقشندى- ج 14- ص 365.

(2) التطفيل- الخطيب البغدادي- مكتبة القدسي- القاهرة- الطبعة الثانية- ديسمبر 1983م- ص 28. 

(3) أخبار الظراف والمتماجنين- ابن الجوزي- ص 187.

(4) رسائل أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني- طبعة ثالثة- طبعت فى مطبعة هندية في مصر- 1898 م- ص 325. 

(5) انظر: الأدب في موكب الحضارة- د. مصطفى الشكعة- ص 619.

(6) انظر: بديع الزمان الهمذاني- رائد القصة العربية والمقالة الصحفية- د. مصطفى الشكعة- مكتبة القاهرة الحديثة- 1959 م- ص 163 وما بعدها.

(7) رسائل بديع الزمان الهمذاني- ص 148. 

(8) البصائر والذخائر- التوحيدى- تحقيق د . وداد القاضى- دار صادر- بيروت- الطبعة الرابعة- 1999م- مجلد 3- ج 5- ص 192.

(9) رسائل بديع الزمان الهمذاني- ص 136.

-----------

** المصادر والمراجع:

(1) أخبار الظراف والمتماجنين- ابن الجوزي- تحقيق محمد أنيس مهرات- دار الحكمة- دمشق- الطبعة الأولى- 1987م .

(2) الأدب في موكب الحضارة- د. مصطفى الشكعة- مكتبة الأنجلو المصرية- 1968م .

(3) بديع الزمان الهمذاني، رائد القصة العربية والمقالة الصحفية- د. مصطفى الشكعة- مكتبة القاهرة الحديثة- 1959 م .

(4) البصائر والذخائر- التوحيدي- تحقيق د . وداد القاضي- دار صادر- بيروت- الطبعة الرابعة- 1999م .

(5) التطفيل- الخطيب البغدادي- مكتبة القدسي- القاهرة- الطبعة الثانية- ديسمبر 1983م.

 (6) رسائل أبى الفضل بديع الزمان الهمذاني- طبعة ثالثة- طبعت في مطبعة هندية في مصر - 1898 م.

(7) صبح الأعشى- القلقشندي- المطبعة الأميرية- 1918م.