إن الرسائل هي الشكل الفني الأول الذي لجأ إليه الأدباء حينما أرادوا الكتابة الإمتاعية- كما يُطلق عليها الدكتور "مصطفى الشكعة"(1)- ولا تأتي أسبقية الرسائل على المقامة من الناحية الزمنية فحسب بل كان هذا السبق ضرورة موضوعية وفنية استلزمها التطور.

 

يعجب المرء حينما تطالعه أول رسالة ساخرة فيجدها قد جاءت ناضجةً مكتملةَ العناصر، بل كانت وما زالت درة فريدة فى الأدب العربى، ونقصد رسالة "التربيع والتدوير"، غير أن هذا العجب يتبدد حين تُنسب إلى علم العربية وعبقري السخرية الذي لمْ يطاوله أحد في مجالها؛ وهو " الجاحظ" ولخبرته الطويلة في السخرية والفكاهة، ورصده لها تدوينًا وتنظيرًا، وصياغةً وتأليفًا كذلك.

 

لسنا في حاجةٍ إلى أن نُعرِّف بـ"الجاحظ"، لكن ما شغل الدارسين هو السبب الذي دفعه إلى تأليف هذه الرسالة، فأرجعه البعض إلى الخلاف الشديد بينه وبين "أحمد بن عبد الوهاب" الذي كتب فيه رسالته(2) وذهب البعض إلى أن السبب يكمن في الحقد والعداوة المتأصلة بينهما(3) غير أن الدكتور "نشأت العناني" لم يقنع بهذا الإجمال، فجنح إلى التفصيل، وعدّد أسبابًا مختلفة تضافرت لتدفع "الجاحظ" لتأليف هذه الرسالة، ومن هذه الأسباب:

1 – الغيظ والحنق في نفس "الجاحظ" حين يرى نفسه في غير مكانه ولم يقدّر حقّ قدره، وهنالك من هو أحطّ رتبةً وأقل منزلةً منه، قد نال فوق ما ينبغي له.

 

2 – كان "أحمد بن عبد الوهاب" كاتبًا، و"الجاحظ" يَكْرَهُ أفراد هذه الطائفة، ويعيبهم ويهزأ بأكثرهم.

 

3 – "الجاحظ" كان ساخرًا بطبعه، ميَّالاً إلى الفكاهة بفطرته، يطلبها ويلتمسها في شتى مواطنها.

 

4 – كان "ابن عبد الوهاب" في هيئته وسحنته، ونفسيته وعقليته صورة متناقضة، تدفع "الجاحظ" إلى أن يتناولها بقلمه.

 

5 – كان "الجاحظ" قبيح الوجه، مشوه الخلقة، وربما كان "ابن عبد الوهاب" على العكس من ذلك، فغاظه ذلك وأسقط عليه شوهته.

 

6 – ربما تاه "ابن عبد الوهاب" بنفسه، واغتر بمنصبه حتى ضاق به "الجاحظ".

 

7 – ربما كان "ابن عبد الوهـاب" السبـب في الوقيعـة بين "الجاحـظ" وبين "ابن الزيات".

 

8 – كان "الجاحظ" صاحب مذهب وطريقة في الاعتزال و"ابن عبد الوهاب" كان يعتنق الرفض والتشبيه والقول بالبداء (4).

 

تندرج هذه الدوافع والأسباب رغم كثرتها ومحاولةِ الحصر والتقصيِّ تحت ثلاثة أسباب فقط هي:

أولاً- العداوة والحقد والكراهية التي كان يحملها "الجاحظ" "لأحمد بن عبد الوهاب".

 

ثانيًا- ميل "الجاحظ" الفطري للفكاهة والسخرية.

 

ثالثًا- توفر أسباب السخرية من "ابن عبد الوهاب".

 

ونجد أن السبب الأول قد حظي باهتمام النقاد، مع أنه لا يقوم منفردًا، كما أن قيمته تأتي بعد السببين الآخرين، وعلى الرغم من أننا لا يمكننا أن ننكر وجود الكراهية والعداوة بين "الجاحظ" و"ابن عبد الوهاب"، فإننا ندهش من الموقف النقدي من دوافع "الجاحظ" لتأليف "التربيع والتدوير" وبين دوافعه لتأليف "البخلاء"، فبينما يتمثل الأول في التسليم والتأكيد على كراهية "الجاحظ" وحقده، نجد على العكس من ذلك موقفًا مبنيًّا على الشّكِّ وعدم التسليم بما سجَّله "الجاحظ" أو ما تُمليه القراءة لنصوصه، فقد شكك الجميع في نوايا "الجاحظ" ودوافعه لدرجة أن وَصَفَهُ البعض بالبخل، وجعلوا حديثه عنه وسخريته منه من باب تلذّذ الشخص بذكر ما يحب!!!(5) وأيضًا لدرء الشبهة والتهمة عن نفسه! وأمَّا عن التشكيك في وجود من روى عنهم فحدث ولا حرج! وإذا ثبت وجودهم الفعلي، فالتشكيك في نسبة ما رواه "الجاحظ " عنهم هو الموقف النقدي المعتمد، كرسالة "سهل بن هارون" في تفضيل البخل، إذ يُعتقد أن "الجاحظ" هو مؤلفها، وأسلوب صياغتها خير شاهد على ذلك (6).

 

إن السخرية وتشنيعات "الجاحظ" في "البخلاء" تحطُّ من القدر، وتسقط المروءة، ونعتقـد أنها أشدّ وأنكى منهـا في "التربيع والتدوير" الذي لا يخفى على أي قارئ مدى المبالغة التي لم يحاول "الجاحظ" إخفاءها.. لقد عرض الدكتور "نشأت العناني" لآراء ثلةٍ من الرواد حول هذه الرسالة، تُبيّن أن إفراد "الجاحظ" هذه الرسالة في السخرية من شخصيةٍ لها وجودها الحقيقى كان لونًا جديدًا في الأدب العربي، جعل رائدًا كبيرًا كالدكتور "طه حسين" يتساءل: (… فحدثوني أين الشاعر العربي الذي يستطيع أن يبلغ في الهجاء بعض ما بلغه "الجاحظ" في رسالته هذه؟ وأين القصيدة التي تبلغ في الطول والتفنن ما بلغه "الجاحظ"؟" (7).

 

لقد حجب الانبهار بمقدرة "الجاحظ" وبراعته وطول نفسه في السخرية، بعضَ الأمور الأخرى، كتلك التي أشار إليها الأستاذ "أحمد أمين" إذْ يرى أن الجاحظ في رسالته هذه "استطاع أن يجعل لها موضوعًا علميًّا، بل لعلها أحسن رسائله لمَن شاء أن يعرف أيّ المسائل العلمية والعقلية والأدبية والفلسفية كان يشغل الناس في عصر الجاحظ" (8).

 

إن "الجاحظ" كان معنيًّا طوال رسالته بهذا الجانب أو هذا الموضوع العلمي المعرفي أو التعليمي، ونعتقد أنه كان غاية له تمامًا كغايته من السخرية بـ"ابن عبد الوهاب"، وحين نرى إهمالاً لهذه الغاية في السياق النقدي في مقابل ما وصمت به المقامة- على سبيل المثال- من أن غايتها كانت تعليمية؛ فإن المفارقة تزداد، والدهشة تكبر.

 

لقد التفت الدكتور "عبد اللطيف حمزة" إلى هذا الجانب وعدَّه أحد العناصر التي تؤلف سخرية "الجاحظ" وأطلق عليه "عنصر العلم أو الثقافة" (9)، ولكن اهتمام "الجاحظ" كان يتعدى مجرّد الاستفادة من العلوم المختلفة في سخريته، فنراه يستطرد كثيرًا إلى ما اعتبره البعض خروجًا عمَّا تتطلبه السخرية (10)، ونظن أنه كان من أهداف "الجاحظ" هذا الاستطراد أو الاستعراض العلمي إن صحَّ التعبير.

 

إذا انتقلنا إلى المُضحك وصوره، والسخرية وأساليبها في "التربيع والتدوير" نجد من يرجعها إلى عناصر عامة مجملة، كما فعل الدكتور "عبد اللطيف حمزة"، الذي يرى أن سخرية "الجاحظ" تتألف من عناصر شتى هي:

أولاً- عنصر الضحك والمزاح.

 

ثانيًا- عنصر"المسح" أو العبث بالصورة "الكاريكاتور".

 

ثالثًا- عنصر التناقض.

 

رابعًا- عنصر العلم أو الثقافة (11).

 

ويرجع براعة "الجاحظ" في عنصر المسخ أو المبالغة في تصوير العيوب إلى تأثره بـ"ابن الرومي" واعتبره تلميذًا في الهجاء له، بينما يرى الدكتور "مصطفى الشكعة" أنه "ليس من شك في أن ابن الرومي في لوحاته وكاريكاتورياته الرائعة كان تلميذًا للجاحظ في هذه الرسالة" (12)!

 

ونجد مَن يُفصِّل القول بعض الشيء مثل الدكتور "نعمان أمين طه" الذي يرى طرق السخرية في هذه الرسالة تتمثل في:

1- التبالُه: أو محاولة الكلام على لسان "أحمد بن عبد الوهاب" بأن ينسب إليه كلامًا يدافع به عن شكله أو قصر جسمه.

 

2- المبالغة.

3- التلاعب بالأسلوب: وهي أن يذكر له الصفة وضدها اقتدارًا من "الجاحظ" لسيطرته على زمام الكلام وامتلاكه لأعنته.

 

4- المدح الساخر.

5- التهكم الظاهر الضاحك: وذلك بذكره ألفاظًا كاذبة مضحكة تنتزع الابتسامة من القارئ انتزاعًا.

 

6- العناصر الفنية في سخريته أو أسلوبه الساخر ويشمل:

- الألفاظ المضحكة.

- الجمل الاعتراضية الدعائية.

- الطريقة الإنشائية كالاستفهام والأمر والنداء.

- التبكيت: وذلك بتوجيه أسئلة يستحيل الإجابة عنها.

- السجع الذي يختم به عباراته الساخرة (13).

إننا لا نعثر هنا على الصورة الكاريكاتيرية التي شدَّت انتباه الدارسين؛ حيث اكتفى بالإشارة إلى المبالغة كأصلٍ جامع لها، وهو عكس الموقف الذي اتخذه الدكتور "نشأت العناني" حيث أولى التصوير في الرسالة جل اهتمامه، خاصةً أنه عرض الرسالة بوصفها نموذجًا للصورة الكلية الشاملة من صور التصوير الهزلي (الكاريكاتور) عند "الجاحظ"، وقد حدد معالم الصورة التي رسمها لـ"ابن عبد الوهاب" على النحو التالي:

1- العبث بتفاصيل جسمه:

( أ ) الصورة تخالف ظلها.  ( ب ) انقلاب الصورة ظلاً والظل صورة.  (جـ) الاحتجاج لفضيلتي العرض والقصر.  ( د ) تحسين ما قبح فيه.

 

2- مجاوزته حدود الكمال:

(أ) رفعه فوق قدره. (ب) تفوقه على المخلوقات.  (جـ) معرفته كل شيء.
(د) خروج جماله عن المقاييس.  (هـ) حياته سبقت آدم.

 

3 – مقارنته بالمشاهير.

4- التصريح بعيوبه:

(أ) ادعاؤه ما ليس فيه.  (ب) جهله بالبديهيات.  (جـ) عدم قابليته التعلم.  (د) التواء طباعه.
5- موازنته بـ"الجاحظ".

 

6- قلب حقيقته:

(أ) جمعه المتناقضات.   (ب) جد قُصد به الهزل.   (جـ) التلاعب بعقله.

 

7- إفحامه بالأسئلة (14).

لقد لاحظ الدكتور "نعمان طه" أن أسئلة "الجاحظ" لا إجابةَ لها في الأصل، ولم يكن الهدف منها سوى التبكيت، وهي ملاحظة في محلها، ونضيف أن السخرية تكمن في طرح هذه الأسئلة؛ حيث جمع "الجاحظ" مئات القضايا التي عرفتها الثقافة العربية خاصة والإنسانية عامة، ولا يُرجَى لها جواب وتبالَهَ أو تحامق أو إن شئنا الدقة؛ سخر بعلم خصمه حين طالبه بالإجابة عنها، مصورًا إيّاه في صورة صاحب العلم المطلق!

 

ولكن د. "العناني" يرى أن (أكثر الرسالة معقود على إحراجه بالأسئلة، بمساءلته مائة مسألة يكون جوابه عنها العي والحصر، فإذا هو صورة مجسمة للجهل، ونموذج للسفه والطيش.)
لو اقتصر الأمر على أسئلة لها جواب- مهما صعب أو دقَّ هذا الجواب- لم تبلغ السخرية ما بلغته من حذق وصنعة، كما يقرّر الدكتور "العناني" ما ذكره "الجاحظ" في رسالته في قوله: ( … أسألـه عن مائة مسألة أهزأ فيها وأعرف الناس مقدار جهله..) (15)، ويؤكد عدد المسائل في موضع آخر- نقصد الدكتور "العناني"- في قوله:

(ويوجّه إليه الأسئلة الكثيرة، وقد بلغت مائة مسألة يعرف قصوره عن إجابتها) (16).

 

وإذا بحثنا عن حقيقة هذا العدد نجد أنه ذُكر عند "الجاحظ" على وجه التكثير لا على وجه الحقيقة، كما أخذه د. "العناني" وإلاَّ فإن الرسالة قد حوت مئات الأسئلة، وإذا قيل: إن المائة قُصد بها القضايا والموضوعات التي سأل عنها، فإننا لا نجدها تصل إلى نصف المائة؛ مما يؤكد ما نذهب إليه.

 

إن ما سبق أن عرضنا له لا يمكن تقييمه بصورة جيدة دون أن نخلع أنفسنا من الافتتان "بالجاحظ" ورسالته، وهو ما فعله د. "نعمان أمين طه" حين سجَّل بعض العيوب التي يعتقد أنها بالرسالة، وهي قضية تحتاج إلى حديثٍ آخر بإذن الله تعالى.

------------

* الهوامش:

(1) الأدب في موكب الحضارة - د. مصطفى الشكعة – ص 597 على سبيل المثال حين تحدث عن كتابة أبي إسحاق الإمتاعية.

 

(2) الأدب في موكب الحضارة - د. مصطفى الشكعة - ص 584.

 

(3) السخرية في الأدب العربي - د. نعمان محمد أمين طه – ص 194.

 

(4) فن السخرية في أدب الجاحظ - د. نشأت العناني – ص 206 وما بعدها.

 

(5) البخلاء – الجاحظ – ترجمة المؤلف ص 15 وما بعدها.

 

(6) السخرية في الأدب العربي - د. نعمان محمد أمين طه - ص 169 وما بعدها.

 

(7) السخرية في أدب الجاحظ - د. نشأت العناني- ص 244.

 

(8) المرجع السابق - ص 244.

 

(9) حكم قراقوش - د. عبد اللطيف حمزة – ص 101.

 

(10) فن السخرية في أدب الجاحظ - د. نعمان محمد أمين طه - ص 198.

 

(11) حكم قراقوش - د. عبد اللطيف حمزة - ص 98 وما بعدها.

 

(12) الأدب في موكب الحضارة - د. مصطفى الشكعة - ص 589.

 

(13) السخرية في الأدب العربي - د. نعمان محمد أمين طه - ص 199 وما بعدها.

 

(14) فن السخرية في أدب الجاحظ - د. نشأت العناني - ص 213 وما بعدها.

 

(15) رسائل الجاحظ – جمع - حسن السندوبي – المطبعة الرحمانية – القاهرة – الطبعة الأولى – 1933م - ص 188.

 

(16) فن السخرية في أدب الجاحظ – د. نشأت العناني - ص 241.