- الكتاب قدَّم نقطة انطلاق جديدة في التعامل الغربي مع القرآن

- رصد تباين مستوى تلقي القرآن بين الأوائل والمعاصرين

- أبرز جوانب الإعجاز في القرآن من الكلمة وحتى الصوت

- جمال النص جعل القرآن معجزة الإسلام الكبرى والخالدة

 

عرض: الدكتور خالد فهمي *

ما زال الذكر الحكيم وسيظل نقطة الانطلاق المحورية في القراءة الإسلامية للوجود، وهذه الحقيقة نالت إجماعًا لا مثيل له ولا سابق له، ورغم تفاوت النظرة الغربية واختلاف تناولها لإعجازه المتنوع؛ فإنها تقف عند قناعة ثابتة تهب نصوصه الإلهية أرفع المنازل والدرجات.

 

ويعد كتاب نفيد كرماني "بلاغة النور جماليات النص القرآني" (1) نقطة انطلاق جديدة في التعامل الغربي مع القرآن، ليس فقط على مستوى العنوان الشاعري الأسر الذي تصدره فقط، ولكن لأنه في الحقيقة يمثل اتجاهًا فريدًا في النظر إلى النص العزيز، ليس من منظور متلقيه فقط، ولكن بقراءة إعجازه من وجهة نظر المؤمنين به.

 

وتزداد قيمة هذا الكتاب في ضوء المعلومات التالية:

أولاً: أنه كان في أصله دراسة عليا لنيل درجة الدكتوراه، تقدَّم بها نفيد كرماني إلى جامعة بون بألمانيا سنة 1997م بإشراف واحد من ألمع المستشرقين الألمان المعروفين في الأوساط الأكاديمية المصرية في ميدان الدراسات اللغوية والعربية وهو شتيفان فيلد.

ثانيًا: أنه جاء معارضًا الأحكام الناشئة التي صدرت عن حركة الاستشراق في عصوره الأولى والوسطى، على حد تعبير صاحبه.

ثالثًا: أنه جاء مستصحبًا الدليل على جماليات النص الكريم من وجهة أدبية، في ضوء استشهاد بالمنظرين المسلمين خلال مناقشاتهم لقضية الإعجاز.

 

شهداء القرآن

وذلك ما جعل هذا الكتاب نقطة جديدة في رصد علاقة المسلمين بالقرآن الكريم، وفي أهمية العوامل المحيطة بهذه العلاقة، ويفجِّر كتاب "بلاغة النور" دراسة استقبال القرآن من خلال رصد آثاره على جمهور المتلقين، ويفحص الشروط الجمالية لهذا الاستقبال الذي ارتقى في بعض الأحيان؛ ليمثل ظاهرة رصدت من قِبل المؤلفين المسلمين فيما سمي تاريخيًّا بقتلى القرآن أو بشهداء الذكر العزيز.

 

ومن المهم ملاحظة أن الباحث كان صادقًا في قراءة بلاغة النور، من خلال استعماله المصطلحات المركزية الدائرة في حلقات البحث والدرس والتكاليف العربية، وهو ما نلحظه ظاهرًا في استعمال ألفاظ مثل (المعجزة والإعجاز والوحي).

 

السلطان

تحت عنوان "أوائل السامعين"، يبدأ كرماني فصول كتابه الستة، فيقول: أدرك القرشيون منذ سمعوا كلمات الوحي قوة الجذب التي يملكها القرآن، حتى إن الكثيرين منهم كانوا يجتمعون أمام دار حبيب بن عدي وهو يتلو الكتاب الكريم ليلاً؛ ليستمتعوا بكلماته وصياغاته.

 

ورغم تشكيكهم في تنزيل القرآن من السماء، إلا أن كلماتهم تواترت في مدحه والتعبير عن إبداعه، وتكررت مفردات مثل: إن عليه لطلاوة وإن له لحلاوة وإنه ليستولى على القلوب.. إلخ، حتى صارت ثابتة دوارة في مراجع القوم القديمة، ولا سيما في مؤلفات السيرة والتاريخ والمغازي.

 

ويتأكد- ولا سيما- من إقرار الخصوم مع تفانيهم في مواجهة نفوذ سلطان هذا النص الكريم الحقيقة القائلة إن واحدًا من أهم العوامل انتصار الفكرة والعقيدة الإسلامية، وانتشارها على الأرض كان يرجع لهذه القوة المهيمنة التي صاحبت النص الكريم في كل عملية إعادة لتلاوته أو ترتيله.

 

وخلص نفيد كرماني في قياس هذا الأثر الجمالي الهائل لتلاوة، النص على فكرة تبدو ملائمة جدًّا، وظاهرة جدًّا لمن يفحص هذا الأمر وهي فكرة (السلطان)، مؤكدًا أن السلطان القاهر لكلمات الذكر الحكيم، يبدو جليًّا بالمقارنة لإبداعات الشعر والنثر قديمًا وحديثًا.

 

تراجع معاصر

 

د. خالد فهمي

وعلى الرغم من هذه الحقيقة البدهية؛ فإن نفيد كرماني يعود- وهو الأمر الذي يستحق قدرًا كبيرًا من المنافسة والتأمل وإن كان الواقع المعاصر يدعمه- يعود فيسجل أن التاريخ المستعاد لتأمل هيمنة القرآن وقوة جذبه، تمثل اليوم في تصوره حالة من حالات تراجع البناء اللغوي للكتاب الكريم، ولا سيما بالنظر إلى مركز المستقبلين المعاصرين.

 

وقد يكون ما أورده كرماني صحيحًا إجمالاً لا تفصيلاً، وذلك إذا ما قارنا بين جيلين من أجيال الاستقبال للذكر الحكيم، وهما: جيل عصر النزول الأول "صدر الإسلام"، والجيل المعاصر الذي يستقبل النص اليوم.

 

ويتعمق نفيد كرماني- مع اعترافه بما لديه من نقص في الجهاز الاصطلاحي الواصف لسلطان هذا اللسان الذي نزل به القرآن الكريم- فيقرر أنه قد أُتيح للغة القرآن الكريم في هذا المجال سحر وعذوبة تسجل ظاهرة عالمية.

 

ومع غموض مفهوم سحر اللغة وعذوبتها؛ فإن نفيد كرماني مصرٌّ على استصحابها في سياق تحليله لهيمنة النص على مراكز استقباله، من دون الارتباط بالزمان بشكل ضيق.

 

ويعتمد كرماني في هذا الطرح على ما يلي من حقائق قيمة للغاية يمكن إيجازها فيما يلي:

1- سحر اللغة ظاهرة عالمية في اللغات والحضارات المختلفة والملل المتنوعة.

2- الإقرار بأن جانبًا كبيرًا من اللغة أي لغة لا يزال مجهولاً.

3- وجود آثار لما يسمى بهذا السحر في القديم في لغة الكهانة، وربما في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سجع القرآن.

4- اعتراف كرماني وإقراره معًا بأن البناء القرآني من الزاوية اللغوية تعيينًا يمثِّل أهمية مركزية خاصة، وربما ارتبط تلقيه بحالات البكاء والصراخ والسقوط من آثار التلقي، ذلك أن الوعي بعلوية النص عند استقبال السامعين الأوائل له كان أمرًّا يصب في باب ما يوصف بأنه أمر خارق للعادة، ولم يكن ذلك إلا عبر بوابة البناء اللغوي ابتداءً.

 

وهو الأمر الذي يحمل المستمعين المعاصرين عبء السير في طريق طويلة جدًّا؛ حتى يستعيدوا روح هذا الاستقبال الأول، وهي طريق روحية ومعرفية معًا، وهو ما يجعل المسألة ضربًا من الصعوبة البالغة.

 

شعرية القرآن؟

ويستفتح نفيد كرماني الفصل الثاني وعنوانه (النص) بسؤال: هل القرآن شعر؟ ويقرر أن الإجابة من منظور الدين الإسلامي هي النفي القاطع، على الرغم من اشتمال القرآن على عناصر شعرية، وهو الخيط الذي انطلق أمين الخولي ومدرسته من بعد للدعوة إلى ضرورة دراسة القرآن دراسة أدبية؛ ما أنتج ما سمي في الدرس المنهجي للتفسير اتجاهًا معاصرًا حمل اسم التفسير الأدبي، وهو ما أفرز إنتاجًا متميزًا مثل بنت الشاطئ رحمها الله تعالى.

 

ويعتمد كرماني على شعرية القرآن، وليس على كونه شعرًا ليقرر حقيقة مهمة، مفادها اتساع دائرة الوظائف التي يؤديها النص العزيز بما هو نص متنامٍ أسلوبيًّا، وعالٍ لغويًّا، ومن ثم فللقرآن بحكم حيازته لعناصر شعرية وظائف الإخبارية والتعبيرية والتحفيزية، ولكنه يتخطاها ليؤدي وظيفة جمالية وشعرية تعيينًا، وهي الوظيفة التي تهيمن على المتلقي وتجذبه وتعجزه.

 

ويحاول كرماني توزيع وتصنيف الآيات على الوظائف الأربع كما يلي:

1- الوظيفة الإخبارية والوعد والوعيد والقصص.

2- الوظيفة التعبيرية وحديث الله عن نفسه.

3- الوظيفة المحفزة في آيات الأحكام الشرعية.

4- الوظيفة الشعرية الفواصل القرآنية- أو نهايات الآيات.

 

وعلى الرغم من اعترافه بوجودها، أي الوظيفة الشعرية؛ فإنه يضيِّق من نطاق ظهورها، وهو الأمر الذي ينتج تناقضًا مفهوميًّا لم يحل في دراسة كرماني، إلا أن يعيد فيعترف بخطأ تضييقه لمساحات الشعرية في النص العزيز، هذا التناقض يمكن تصوره من المعادلة التالية.

 

الجمال لا التركيب

فالشعرية محققة للجذب واستثارة الانتباه، وهي قليلة في القرآن، مع أن القرآن في مجمله يحقق الجذب، ومن ثم تخلي كرماني عن هذه النتيجة؛ ليقرر أن الوظيفة الشعرية للنص العزيز سعت لتحقيق تقوية الوعي والإدراك.

 

لقد أثار هذا الجدل خلافًا خلاَّقًا حول تحديد طبيعة القرآن الكريم، وهو الخلاف الذي أثبت علوه وتميزه وإن أنتج التعيينات التالية:

- القرآن ليس شعرًا أو نثرًا، وإن جمع حسنات النوعين دون سلبياتهما (شريعتي مظناني).

- القرآن نثر لكن ليس كالنثر، وشعر لكن ليس كالشعر (أدونيس).

- القرآن يوحد كل الجماليات دون أن يتحد مع أحدها (السيوطي).

 

هذا الحوار الخلاق توقف أمام استعلاء طبيعة النص القرآني، ويسجل ملمحًا آخر من ملامح النور في بنية النص، وتمثلت فيما عبر عنه كرماني باسم عمومية النص الجذاب المشمولة بغموضه.

 

ومن هنا ينخرط كرماني في تطبيقات تركيبية لبعض آي الكتاب الكريم؛ ليدلل بها على فكرته، ويمثل ذلك بقوله تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)﴾ (القارعة) فيناقش العلاقات التالية:

1- الإشكال المعجمي المتمثل في الدلالة المتسقة للقرع الذي يتوزع على الضرب- التوزيع- التقسيم.

2- الإشكال الناشئ عن قلة استعمال اسم فاعل من جذر (ق/ر/ع).

3- الإشكال النحوي الناشئ عن عزلة القارعة عن أية علاقة في الجملة.

4- دلالة التوكيد (الناشئ من التكرار اللفظي للعبارة).

 

وكل هذه العلامات تفجر انفعالاً ناشئًا من عدم الوضوح، ثم يتعانق مع هذه الأربعة العلامات أي آخر متمثل في الإجابة التي أعقبت هذين التعبيرين اللذين هما تعبير واحد تكرر، وهي الإجابة التي افتتحت بكلمة (يوم) قي قوله ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)﴾ (القارعة) وهي الإجابة التي تبدو سهلة معجميًّا، ولكنها ملبسة نحويًّا من تأمل إمكانات إعراب (يوم) في الآية الكريمة:

1- يوم، ظرف زمان.

2- يوم، مفعول به، أي: أذكر يوم.

 

وهذا التردد بين هاتين الوظيفتين النحويتين، يخلق التشويق الذي يحمل في طياته تهديدًا ظاهرًا، لا ينشأ فقط مما سبق أيٌّ من الغموض المعجمي/ والغموض النحوي، ولكنه ناشئ أيضًا من التركيب الفريد والغريب للكلمات في الآيات، وهي الفكرة المعروفة قديمًا باسم التضام النحوي- بالإضافة إلى الإطلاق وعدم التقييد أو الاتساع في الصورة في كـ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾ إخبارًا بها عن الناس، بالإضافة إلى الإطار المستقبلي زمنيًا المحيط بالحدث المخبر عنه.

 

ويواصل نفيد كرماني بيان أن أثر الإصرار على مراعاة آداب التلاوة لا ينفي واقعيًّا التأثير المهيمن على المتلقين من تأمل إلقاء القرآن الكريم شفوية، والذي يستلزم في أحيان كثيرة خبرة وتجارب جمالية مع النص العزيز.

 

نغم القرآن

ثم ينتقل الكاتب في الفصل الثالث وعنوانه (النغم) إلى الأداء الصوتي للقرآن، فيقف أمام مشروع الدكتور لبيب السعيد المتعلق بالجمع الصوتي للقرآن الكريم، ويتعجب من حالة التعتيم التي يلاقيها في الدراسات القرآنية المعاصرة بشكل أساسي.

 

وينطلق كرماني من مشروع السعيد لإقرار حقيقة مهمة؛ أنه إذا تم الانتصار لحقائق العناية بالنص العزيز من جوانب مختلفة متنوعة ولازمة بشكل يغلب سلم الأولويات، إلا أنها تأخرت وكادت أن تنعدم العناية بفكرة ترتيل النص وتلاوته وأدائه الصوتي؛ حتى كان مشروع لبيب السعيد.

 

ويلفت إلى أن العناية الآكدة بجوانب الإبداع القرآنية من لفظ ومعنى وتقريرات، لا ينبغي أن تُلغى أو تهمش أفكار العناية به ترتيلاً وتلاوةً.

 

وهو الخيط الذي يتابعه ليقرر أن مسألة كون القرآن الكريم ينبغي أن يُتلى بصوت حسن مجود جميل هو أمر لا يقبل الشك مطلقًا، ومن المقبول أن تختلف بعد ذلك في درجات مراعاة قواعد التجويد.

 

ويشدد على هذه المسألة باستحضار المعلومات التالية:

1- الأمر بتجويد القرآن وتحسين الصورة.

2- وجود قواعد تعني بأداء النص (موسيقيًّا).

3- استحضار النفس المؤدية للنص والنفس المتقبلة له، فعند تلاوة القرآن نحن نواجه عبادة وسيلة، أداؤها جارحة اللسان!

4- تمكين المعنى بما هو معيار حاسم في قبول التجويد أو رده!

 

وفي فصول الكتاب الثلاث المتبقية، يوضح كرماني كيفية تعانق مجموعة صغيرة من الكلمات لتصنع في النهاية صورة واضحة المعالم من لغة النظم القرآني وطريقة تركيبه، وآليات تشكيل النص عامة لنصل إلى حقيقة مهمة جدًّا، تقول إن الشيء الذي لا يقبل الشك هو أن هذا الجمال الذي رآه المسلمون في القرآن لا يمكن ادعاءه لعمل آخر مهما كانت قيمته الأدبية.

 

ويجب أن يكون واضحًا أن الجمال القرآني هو معجزة الإسلام الحقيقية! وهو الأمر الذي ينبغي أن يقرَّ في ضوء حقيقة ساطعة تقول: لغة القرآن هي المعجزة الكبرى أو على حد تعبير نفيد كرماني في آخر جملة في كتابه "إن الجمال القرآني هو الذي جعل من لغة القرآن المعجزة الكبرى".

 

ملاحظات عامة

سبق أن قررنا أن هذا الكتاب مهمُّ وخطيرٌ لعدة الأسباب التي طرحناها في مفتتح هذا العرض أو في صور هذه القراءة.

 

وهو الأمر الذي كان يفرض على جمهرة المترجمين والمراجع الدكتور سعيد الغاغي من خلفهم أن يضيفوا إلى الترجمة عددًا من المقدمات والفهارس اللازمة، التي كان يمكن أن تعين على الإفادة والاستمتاع بالدراسة موضوع الكتاب، وهو ما لم يكن.

 

من جانب آخر؛ فإن إسقاط مصادر الدراسة فوت عددًا ضخمًا جدًّا من الفوائد التي لا يمكن إنكارها في ميدان الدرس اللغوي والإسلامي للنص العزيز.

 

مسألة أخرى أخذت بالنص؛ وهي حاجة الكتاب إلى المراجعة اللغوية، ولا سيما مع وجود عدد كبير من الأخطاء على المستويات المختلفة المعجمية والنحوية، ولا سيما في المطابقات بين المبتدئات وأخبارها.

 

أمر أخير ينبغي التنبيه عليه وهو مسألة اعتماد نفيد كرماني على ما أنتجته أصوات بحثية معاصرة كنصر أبي زيد، ما ينبغي أن يقرأ في أناة وتحوط، وإن كان الحق يقتضي أن نقرر أن المخاوف تبدو ضئيلة جدًّا.

 

هذا كتاب جديد يفتح آفاقًا في الدرس اللغوي والتعدي والأدبي والجمالي والتاريخي، وفي مجالات كنا نحن الباحثين المسلمين أولى الناس بارتيادها.

--------------

(1) كتاب جماليات النص القرآني: مؤلفه نفيد كرماني، وترجمة محمد أحمد منصور وآخرون، والناشر دار الجمل بألمانيا وبغداد وبيروت سنة 2010م.

--------------

* الأستاذ بكلية الآداب- جامعة المنوفية- مصر