حكاية المواطن.. والثري.. والكلب!

بقلم: جمال عبد الغفار بدوي

فلما كانت الليلة السادسة والتسعون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة؛ قالت فقرزاد:

بلغني أيها الملكُ أن رجلاً كثرت عليه الديونْ، ولاحقه القانونْ، ولم يستطع دفعَ الضرائب والمكُوسْ، حتَّى ولو بخلع الضروسْ، واشتكى أولادُه ومن يعولْ، منَ الجوعِ والفولْ، وبكوا يستعطفونه ليأخذهم إلى الجزارْ، ليشاهدوا بأم أعينهم ما يسميه الناسُ باللحمِ والمنبارْ؛ ولكن أنَّى لهذا الفقيرْ، أنْ يفكر مجرد تفكيرْ، أن يمرَّ من أمام خانِ الجزارْ، وهو يعرف ما وصلت إليه الأسعارْ!

 

فخرج الرجل هائمًا حائرًا، ولم يزل ماشيًا سائرًا، حتى أقبل على مدينة عالية الأسوارْ، فدخلها وهو في حالة الذل والانكسارْ، وقد اشتد به الجوع، إذْ لم يذق طعامًا مدة أسبوعْ.

 

فرأى جماعة من الناس متوجهين، وإلى إحدى الطرق مسرعينْ، فذهب معهم، دون أن يعرف مقصدهم، إلى أن دخلوا في محل يشبه محل الملوكْ، فدخل معهم وهو الفقير الصعلوك، غير أنَّ الجوع أفقده القدرة على التفكير، وكان على استعدادِ لأي حادثٍ خطيرْ.

 

فوصل القوم إلى رجل في هيئة عظيمة، وجلالة جسيمة، حوله الغلمان والخدم، والجواري والحشم، فلما رآهم قام إليهم، وأكرم مقدمهم؛ فأخذ الرجل الفقير الذعرْ، واندهش من ذلك الأمر، فتأخر إلى الوراء، في خوفٍ يبغي الاختفاءْ، حتى ذهب بعيدًا، وجلس وحيدًا؛ حيث لا يراه أحدٌ من الناسْ، وكمن في رعبه يكتم الأنفاسْ.

 

وبينما هو جالس في ارتيابْ، أقبل رجل ومعه أربعة كلابْ، عليها من القزِّ والديباجْ ما يثير العجبْ، وفي أعناقهم أطواق من الذهبْ، فربط كل واحد منهم في محل منفردْ، بسلسلة من الفضة وكذلك الوتدْ، ثم غاب وأتى لكل كلب بصحن من الذهبْ، ملآن طعامًا من الأطعمة الفاخرةْ، التي لم يتذوقها الفقير أبدًا طوالَ حياتِه العامرةْ، ثم مضى وتركهم، بعد أن سرَّهُ حالهم، فصار الرجل ينظر إلى الطعامْ، من شدة جوعه الذي وصل حتى العظامْ، ويريد أن يتقدم إلى أحد الكلابْ، ويشاركه طعامه الذي يسيل اللعابْ؛ فيمنعه الخوف الشديدْ، والحَرَسُ العتيدْ!

 

ثم إن كلبًا منهم نظر إليهْ، فأشفق عليه، فتأخر عن الصحن بما فيه، وأشار إليه ليأكل ما يكفيه.

 

فأقبل الرجل غير مصدقْ، وأمعاؤه من الجوع تكاد أن تتمزقْ، وهمَّ بالأكلِ والكلبُ ينظرْ، ولكنه لم يتمالك نفسه من هولِ المنظرْ، فصدرت عن الكلب آهةٌ حزينة، هرع على أثرها كل سكان المدينة، حين دقت الطبولْ، وتحرك الجيش المهول، وانتشر العسس في الطرقاتْ، ورفعت للخطر رايات.

 

لأن صاحبَ الكلبِ سمع أنَّة كلبِه، فشعر بالنيران تستعرُ في قلبِه، فأعُلنت الطوارئُ في القصرْ، وانزعجت سلطاتُ المملكةِ للأمرْ، وقبضوا على الفقيرِ في الحالْ، وجُرْجِرَ في السلاسلَ والأغلالْ، واعتقد المسكينُ أن الأمر سيمُرُّ بسلامْ؛ لأن يده لم تكن قد لمست- بعد- الطعامْ.

 

غير أن الساهرين على أمن البلاد والعبادْ، ذوي السلطة الشدادْ، كانت لهم رؤيةٌ أمْنِيَّةٌ ذات أبعادْ!

 

فقد تطاول هذا الحقيرُ الحيوانْ، على كلبِ أحدِ أعمدةِ السلطانْ، ولوَّثَ بأنفاسِهِ طعامَ الكلبِ الطاهرْ، دون أدنى حسٍّ وطني ظاهرْ، وعرَّض كلبَ صاحبِ الثراءْ، للأمراضِ والأوباءْ، وعطل عجلة إنتاجِ المملكة، بأفعالٍ غير مسئولةٍ مهلكةْ، وأزعجَ بفعلته الإرهابية، العقولَ الثرية الغنية، التي لا تجد وقتًا لهذا الهراءْ، وهي تبذل نفسها من أجل رفع العناءْ، ومحاربة البطالة والغلاءْ؛ لتسعدَ جميعَ الرعيةْ، وتنقلهم من عيشتهم الشقية.

 

وقد خرجت المظاهراتُ بفرماناتِ مولانا السلطانْ، تشكرُ حرصَه على حقوقِ الحيوانْ، وتتغنَّى بسبقِه وريادتِه في هذا المجالْ، وأفعالِه التي تقطعُ ألسنةَ القيلِ والقالْ.

 

واضطر شهبندر الرِّجَّالة، إلى تسريحِ بعضِ العمالةْ، للحدِّ من البطالة، لمطابقة المقاييس السلطانية، وتأكيدِ النزاهة والرفاهية.

 

وقام شهبندر رجال الأعمالْ، في التوِّ والحالْ، بتقديم أسمى آياتِ العرفانْ، لراعي حقوقِ الحيوانْ، وانتهز الفرصةَ وقرَّرْ، زيادةَ أسعارِ الحيوانِ الذي يُجْزَرْ، فارتفعت أسعار اللحومْ، وانزاحت عن الفقراء الهمومْ؛ فلم يعودوا يسألون بعد هذا اليومِ عن الأسعارْ، ولا يذهبون إلى حوانيت الجزارْ.

 

غير أن أعظم إنجازات السلطنة، في هذه الأحداثِ المحزنة، هو جرأةُ شهبندر سيد قراره، الذي خرج عن وقاره، وخرج على الملأ، وأعلن النبأ، وطالب في إصرارْ، لم يعرفه الكبار ولا الصغار، أن يقوم الجنود والعسس، بالحفاظ على القوانين والأسسْ، وذلك بالضرب في المليانْ، وقتل كل متظاهرٍ جبانْ، طاوعته نفسه الحقيرة، بالمطالبة بأشياءٍ صغيرة، كرفع الأجور، أو تعديلِ الدستور، أو ما شابه ذلك من كلام الكفارْ، الذي عافانا منه العزيز الغفار.

 

وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.