ذات ليلة من ليالي بداية أعوام الثمانيينات انتبه خادم مسجد الحرس في مدينة الخليل إلى أن ضوءًا خافتًا ما زال في إحدى زوايا ملحقات بناء المسجد، توجه مسرعًا لإطفاء النور، لكنه فوجئ بشاب يرفع يديه داعيًا ربه باكيًا ويتفحَّصه؛ فإذا هو الشيخ رائد صلاح، الطالب في جامعة الخليل؛ ماذا تفعل يا شيخ أمام التابوت؟ ليكون الجواب واضحًا: أعدُّ نفسي لمثل هذه اللحظات يوم يحملونني إلى قبري ولحدي.

 

هذا الموقف يكشف عن شفافية وروحانية هذا الرجل؛ الذي يجد الوقت الكافي- رغم مشاغله- ليلوذ بخالق الخلق، ومن بيده ملكوت كل شيء، لكنه في ذات الوقت ورغم دموعه وحرقته على القدس والأقصى والأمة يملك سلاحًا من نوع آخر يقاتل به دون أن يضبطه أي أحد؛ ألا وهو سلاح الابتسامة.

 

ابتسامة الشيخ رائد لا تكاد تفارق شفتيه وهو يُقتاد عنوةً للمحاكم الصهيونية ظلمًا وعدوانًا..
ابتسامة يواجه بها ظلم القوانين التي فصِّلت على مقاسه لتكون له قيدًا؛ فيتجاوزها بسلاحه الشخصي دون أن يوقفه قانون..

 

ابتسامة الشيخ تحكي انتصار الإرادة المؤمنة على صلف الظلم والعدوان..

 

ابتسامة تعرف حقيقة الواقع فتلطم بقوة الحق، وتصفع الجبروت الأعمى والحقد الأصفر والسوالف الصدئة وتواصل دورة الحياة..

 

ابتسامة الشيخ رائد لا تحتاج إلى شاحن كهربائي ليزداد رصيدها، بل تستمدُّ قوتها من الثقة برب الأرض والسماء، من الإيمان المسلَّح، ومن عنفوان الحق التليد، ومن بطون المجد، ومن ترانيم السنين وجذور النخل وعروق الياسمين، ومن تاريخ أمة تطلع شمسها ساطعةً، تفضح الخنوع والذل، وتأبى الهوان..

 

ابتسامة الشيخ أطلقت رصاصاتها القاتلة في وجوه قضاة محكمة الظلم يوم يعرض عليهم غير عابئ بهم، هو يقول لهم بالبسمة: افعلوا ما بدا لكم، لا أخشاكم ولا أشعر بكم، ولا تخيفني قيودكم.. اكتبوا ما شئتم على الورق فالقرار ليس قراركم، والعادل ربي، والقاهر ربي، والجبار ربي..

 

ابتسامة لم يقدروا على الصمود أمامها، فهربوا مجددًا لأروقة المحاكم وتاريخهم الأسود، يتهامسون ويقضون أمرهم، ويكون القرار بالموت في غمار البحر وليل مدلهمٌّ، لكنَّ فألَهم خاب، وظنهم خسر.. نجا ونجا ونجا، وخرج من البحر لهم مرةً تلو مرة، لا يحويه قيد، ولا تسعه زنزانة، محلِّقًا بابتسامته من جديد.

 

الكاميرا ضبطته مجددًا متلبسًا بابتسامته، وقد أثمرت على ثغر حماد أبو دعيبس ومحمد زيدان في أروقة محكمة بئر السبع، لم تعُد بسمة واحدة فالحديقة صارت بستانًا، والنبتة صارت شجرةً باسقةً، والأزهار نثرت البذور لمثل هذا اليوم، والركب أصيل لا يؤمن أبدًا بحدود، ولا يخضع لقيود.

 

وبعد.. فهل يقوى الظلم وغدره، والليل وعتمته، والراصد المرتجف، والعين الحاسدة، والقلب الأسود، والخفافيش العمياء، ومن يحملون أسفارهم.. على تحمُّل ابتسامته؟!

---------

* صحفي من نابلس.