من الناس من يقول إنه لا يتصور الحياة دون موسيقى موتسارت وبيتهوفن وفريدريك شوبان، ومنهم من يقول إنه لا يتصور الحياة دون صوت أم كلثوم, وذلك أمر مفهوم، وهناك عشاق الطعام وعشاق الفاكهة، وقد فكر البعض في إنشاء رابطة لعشاق ثمار المانجو، وكل ذلك طبيعي ومفهوم، لكن غير الطبيعي وغير المفهوم أن بعض الناس لا يتصور الحياة دون نفاق متقلدًا بيتًا من الشعر يقول:

 

الحب في الأرض شيء من تخيلنا  ***  لو لم نجده عليها لاخترعناه

 

مع إبدال كلمة "النفاق" بكلمة "الحب"!!، ومن الناس من يعيش بحكمة حياته الخاصة من المهد إلى اللحد "أنا أنافق إذن أنا موجود"!، وهؤلاء هم داؤنا الفكري المتوطن!.

 

إن من حقي- كمصري- أن أحلم ككل المصريين، وقد كنت أحلم قبل الثورة بانزياح الكابوس عن صدر الوطن، وكنت واثقًا من قرب اندحاره، ولكن ليس بالقوة التي أزيح بها، ولا علي النحو التاريخي العظيم الذي قدم للعالم درسًا يلهم كل المقهورين ويقرع مسامع الطغاة أن يوم الثأر آتٍ وإن طال صبر الشعوب، وليس في الكون شعب له مثل صبر شعبنا؛ إذ يتيح الفرص الممتدة للظالم كيما يعدل ويقابل عدله أو عدوله بصفح جميل، فإن طال الظلم وهبَّ المصريون هبَّة ليس كمثلها هبَّة؛ فهم كما قال عنهم الحجاج بن يوسف الثقفي لطارق بن عمرو- وكان مرشحًا لحكم مصر-: "إذا أتاهم بشر بسوء أكلوه، فلا تغتر بصبرهم، وهم صخرة في جبل كبرياء"!.

 

ومع كل ما قيل عن ظلم الحجاج فإن الرجل علم من طباع أهل الكنانة دون أن يعش بيننا ما لم يعلمه مبارك المولود بإحدى قرى مصر، وقد أثر عنه سوء ظنه بالمصريين، وليس بي من الشك ذرة أنه الآن صار يقدِّرهم حق قدرهم!.

 

كان أقصى ما أتمنَّى ويتمنَّى غيري أن يجبر الكابوس مبارك وحاشيته على الرحيل خارج السلطة، بعد أن نهبوا ما يكفي ذرياتهم إلى أن تقوم الساعة، لو وضع في بنوك وأنفقوا من عائده دون أي جهد للاستثمار، ولكن ما وقع جاوز كل الأمنيات، وها هو السيد جمال مبارك قائدنا المنتظر رهين المحبس يحتلُّ مكانه اللائق، واستراح المصريون من طلعته الكئيبة وأقواله وحركاته الثقيلة المفتعلة.

 

كنت أحلم منذ زمن طويل بإنشاء إدارة عامة لمكافحة النفاق، وكتبت ذلك قبل الثورة مرارًا، واليوم أعود إلى طرح نفس الحلم.

 

جادٌّ هو الأمر لا موضع فيه لهزل، فلكل أمة داءاتها المتوطنة، وكما توطَّنت البلهارسيا أرض مصر مئات السنين ويقال بل ألوف السنين فقتلت أجيالاً من أبنائها وخربت ما خربت من أكباد المصريين، وكما يقال بحق أنه لا اجتماع للعافية مع البلهارسيا؛ فإن النفاق مرض مصري وعربي متوطن، ولا سبيل إلى عافية الأوطان دون القضاء على هذا الداء المتوطن!.

 

والحديث عن النفاق ليس مجرد حديث نظري، بل هو- في يقيني- داء كل داء، ولننظر اليوم إلى من نافقوا مبارك وأعطوه من الصفات ما ليس به بل ربما ما يناقض طباعه، كوصف البعض إياه بـ"الحكيم"، بينما كان يتمتع بعمى شخصي وسياسي لا حد له، ويكفي أنه ختم عهده الأسود بتزوير الانتخابات تزويرًا كاملاً شاملاً لصالح بقاء ولده المكروه من طوب الأرض، وقد كابر وعاند عنادًا كله مغلق العقل، فقد نصحه حتى بعض خلصائه أن ولده هو الحجر الذي سوف يهوي به إلى الغرق فلم ينتصح.

 

ورث مبارك جيش المنافقين عن سلفه السادات، ثم انتعشت تجارة النفاق في عهده مع رداءة البضاعة، فاختفى الموهوبون من أئمة النفاق، بعضهم بالموت، وبعضهم بسبب رداءة مستوى مبارك من الحس والثقافة، فلم يكن يسيغ من فنون النفاق إلا أكثرها سطحيةً وانكشافًا، وراح يحل محل الموهوبين منافقون من عديمي الموهبة، ولسطحية قدرات مبارك فقد كان معجبًا ببعضهم إعجابًا يثير الدهشة، وأذكر أنني في لقاء عابر عاتبت رئيس إحدى الصحف المعارضة لوقوفه بالهجوم دائمًا دون رأس مبارك، فلم يفدني بإجابة عن ملاحظتي إلا أنه حدثني عن غباء مبارك، وكيف أنه قال له ولآخرين يومًا عن صحفي مقرب منه- بالرغم من فقر موهبته الشديد وضحالة ثقافته-: "لماذا لا ترضون عن فلان وهو يكتب له في اليوم مقالتين ثلاثة وأسلوبه حلو!"، وقال إن مبارك نطق كلمة أسلوب بفتح الألف!!!!.

 

كان سباق النفاق المحموم حول مبارك يدفع البعض إلى أداءات تهبط لا بقيمة الكلمة ولا حتى بالقيمة الإنسانية للمنافق، بل تهدر رجولة بعض الرجال، كأن يروح البعض في نوبة دعاء؛ مما تجيده العجائز الجالسات على حواف الطرقات والأرصفة، طالبات صدقة من عابري السبيل!.

 

ولعلنا نذكر كيف دفع انعدام الموهبة بعض توافه المنافقين إلى اختراع قصص فقيرة الخيال؛ لإثبات نزاهة مبارك وحرصه على أن يكون قدوةً في طاعة القانون وأداء الضرائب والرسوم! وتكلَّم البعض عن وجوه معاناته فلم يعنه خياله الفقير إلا على سرد وجه للحرمان صار مثلاً يضرب للتندر والسخرية! وكان بعض المنافقين يمنُّ على المصريين بحياة العز، ويدلل على ذلك بإتاحة أدوات وآلات يستخدمونها كانت شائعةً حتى في البلاد التي تعاني حروبًا أهليةً ومجاعات!.

 

يأتي الحاكم خائفًا مرتعدًا لا يصدق أنه جلس على كرسي رمسيس الثاني وعمرو بن العاص، ولكنه يصنع أو بالأحرى تعاد صياغته على عين المنافقين؛ حتى يتحول إلى طاغية مغرور وسفاح ولص أثيم، بينما يزين له أبالسة النفاق سوء فعاله!.

 

ولأن النفاق عند البعض إدمان حقيقي فإنه ما أسرع ما راح هؤلاء- بعد أن أطاحت الثورة العظيمة بمبارك وحاشيته-  يكتبون أو يقولون وقد حذفوا اسم مبارك ووضعوا مكانه اسم المجلس العسكري أو أحد قياداته، وهو وضع مؤقت، ريثما يتسلم السلطة رئيس مدني، فيكال له من المديح ما ينسيه أنه إنسان!.

 

كانت الإمبراطورية الرومانية في عز مجدها قد اخترعت سنَّةً حميدةً، كان الإمبراطور عندما يعود منتصرًا من معركة حربية ويطوف بين جموع الناس أو يقف في شرفة ليخطب في الجموع, كان يخصص له رجل يقترب منه بين حين وآخر ويهمس في أذنه "أنت إنسان، وسوف تموت ويأكل جسدك دود الأرض"!.

 

أدرك الرومان أن الحاكم بحاجة إلى من يقرع سمعه بقول يقطع نزوعه إلى التألُّه في بيئة كانت وثنية، ولكن منافقينا يأبون إلا أن يؤلِّهوا حكامنا ويقيموا وثنية النفاق، والنتيجة هي طغيان الحكام؛ لأن أكثرهم يتحول إلى مستودع موهوم من الحكمة الصافية، رغم أن بعضهم يمثل عارًا عربيًّا في الجهل وضيق العقل وقلة الحظ من الثقافة والوعي، ومنهم من هو في الحقيقة مستودع الجهل الصافي!.

 

إنني أطرح حلمًا طالما راودني، وهو إنشاء إدارة عامة لمكافحة النفاق على غرار الإدارة العامة لمكافحة المخدرات, وبين الاثنين قواسم مشتركة، فكلاهما مدمِّر، وكلاهما ينتهي إلى تغييب الوعي، وأتصور تشكيلها ممن عرف عنهم التجرد والحيدة وشجاعة الرأي وحب مصر الوطن والأم حبًّا منزهًا عن الغرض من رجالات مصر، وهم فوق العد والحصر، وتحدد مهمتها في تلقِّي بلاغات عن النفاق للحاكم، والتحقق من أن هدف ما أبلغ عنه من قول لم يكن القصد من ورائه إلا النفاق والتزلف، ولها أن تنذر المنافق أو توقع عليه عقوبة، ولتكن دمغه بلقب (منافق)؛ بحيث يخاطب به فترةً من الزمن، ثم يكون من حقه أن يتقدم بطلب لرد الاعتبار بعد عدد من السنين فيرد اعتباره إن استقام أمره، وقد كان هناك نظام قديم في بعض القوانين عن الموت المدني فيخاطب الميت مدنيًّا بلقب المرحوم وهو ما زال على قيد الحياة، وعلى هذا فإن توقيع عقوبة (منافق) على شخص ما تعطي الكافة الحق في مخاطبته بلقبه الجديد, ولنا أن نتخيل باب أحدهم يطرق فيفتح ولده ليجد ساعي البريد يسلمه خطابًا مرسلاً إلى والده مكتوبًا عليه: السيد الأستاذ المنافق فلان، ثم يكون من موجبات الحكم ألا تقبل شهادته في المحاكم إلا أن يرد إليه اعتباره، وأن تنشر مقالاته إن كان كاتبًا مع تنويه أسفل الصفحة كما يلي: منافق!.