بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين﴾

 

أرسل لي صديقي العزيز فضيلة الدكتور وصفي عاشور أبو زيد فتواه في مسألة حكم مشاركة القضاة في الإشراف على الاستفتاء على دستور 2013م قبل أن ينشرها على صفحته الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي، ومن قبل أن تتداولها مواقع عدة على شبكة الإنترنت- فألفيتها فتوى منضبطة تسير وفق الأصول والقواعد الفقهية المرعية، وخبرته برأيي وأني متفق مع كل ما جاء في فتواه تمامًا.

 

وهذا ليس بغريب على الدكتور وصفي؛ فهو باحث متمرس ومتخصص في مقاصد الشريعة، وله دربة طويلة بهذا الشأن، وإن لم يكن تابعًا لدار الإفتاء أو مجمع البحوث الإسلامية.

 

وقد أرسل إليَّ فتواه قبل نشرها تواضعًا منه وازديادًا للتوثق مما ذهب إليه، وأظنه أرسلها إلى العديد من المتخصصين غيري، وهذا عهدنا به غير مجازف ولا متهور فيما يصدر عنه من آراء وفتاوى.

 

وقد طالعت اليوم الهجوم الذي شنه عليه فضيلة الأستاذ الدكتور الشحات الجندي- عضو مجمع البحوث وأستاذ الشريعة بحقوق حلون- مستندًا إلى أن فتوى الدكتور وصفي من شأنها أن تقوض أمن المجتمع واستقراره، وتدعو إلى الخروج على الشرعية وازدراء القضاء.

 

وأنا أسأل فضيلة الدكتور الجندي: أي أمن واستقرار يخشى عليه أن يقوَّض؟ وهل اعتقال الأبرياء والزج بهم في غياهب السجون من الأمن؟ وهل تلفيق التهم ذوات العدد لخيرة علماء مصر أمثال الأستاذ الدكتور صلاح الدين سلطان الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية وأستاذ الشريعة بجامعة القاهرة وعضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين بالمجلس الأعلى للجامعات من الأمن والاستقرار؟ وهل الزج بفتيات الإسكندرية في السجن ودور الأحداث من الأمن والاستقرار؟ وهل اقتحام جامعة الأزهر ودخول قاعات الدرس من القوات الخاصة من الأمن والاستقرار؟ وهل اقتحام المدينة الجامعية بجامعة الأزهر واعتقال الطلاب وضربهم بقنابل الغاز وطلقات الخرطوش من الأمن والاستقرار؟ وهل اقتحام كلية الهندسة بجامعة القاهرة وقتل شبابنا واعتقالهم من الأمن والاستقرار؟ وهل ... وهل ...

 

ثم أي شرعية هذه التي يتكلم عنها فضيلة الدكتور؟! وهل للانقلاب شرعية؟ أم أنها سياسة الأمر الواقع؟ وكنت أتمنى أن ينتفض فضيلة الدكتور للشرعية الحقيقة التي سلبت في الثالث من يوليو الماضي! أم أنه قلب للحقائق كما فعل- للأسف- العديد ممن كنا نحترم آراءهم ومواقفهم قبل الانقلاب الغاشم ؟!

 

أما خشية فضيلة الدكتور من ازدراء القضاء فهذه لا أعلق عليها؛ لما يعلمه القاصي والداني من تسييس القضاء بشكل لم يسبق عبر تاريخه الطويل.

 

وادعاء فضيلة الدكتور الجندي أن فتوى الدكتور وصفي ليست بفتوى، وإنما هي رأي شخصي يعبر عن صاحبه؛ فهذا كلام من الغريب أن يصدر عن مثل الدكتور الجندي!

 

ومن المؤكد أن فضيلته يعلم أن الفتوى هي «الإخبار بحكم الله تعالى عن دليل شرعي لمن سأل عنه في أمر نازل» [راجع: بحثي عن «منهج الفتوى في القضايا الفقهية المعاصرة»، المقدم لمؤتمر الفتوى واستشراف المستقبل بجامعة القصيم 4/ 789].

 

وعليه فما صدر عن د/ وصفي فتوى بمعنى الكلمة صدرت بناء على طلب واستفتاء.

 

وهذا ليس إقحامًا للدين في السياسة- كما زعم فضيلة الدكتور الجندي- وهو يعلم أن الشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال العباد، وما من تصرف أو فعل إلا ولله فيه حكم، يستنبطه أهل العلم بما آتاهم الله من فضله، وليس هذا إقحامًا للدين، بل هو قيام بحقه مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].

 

أما ما ذكره فضيلة الدكتور الشحات الجندي من أن الفتوى التي تمس الشأن العام ينبغي أن تكون مؤسسية، أو لنقل جماعية؛ فهذا حق أتفق مع فضيلته فيه، ولكن للأسف مؤسساتنا الدينية ممثلة في الأزهر الشريف بمشيخته وما يتبعها ودار الإفتاء قد تمالأت مع قوى الانقلاب، وتناست واجبها تجاه نصرة الحق والمظلوم، والدفاع عن الشرعية والشريعة مؤْثرةً السلامة العاجلة، أو ناظرةً لحسابات قديمة تودُّ تصفيتها مع اتجاه مخالف، ومع الحال هذه لا يسعنا أن نسكت عن الحق انتظارًا لقول المؤسسة الدينية التي ما عدنا ننتظر منها خيرًا للخروج بالبلاد من أزمتها.

 

وعليه فإنه يجب على القادر على الصدع بكلمة الحق أن يصدع بها غير ملتفت لخلاف من خالف، وهو ما قام به الدكتور وصفي في فتواه التي اعتمد فيها على النصوص الثابتة والفهم الصحيح وحسن التقدير للحال والمآل.

 

وأنا أوقِّع مع فضيلته عليها، وأضم صوتي إلى صوته، وأقول: لا يسع القاضي أن ينأى بنفسه عن المسئولية تجاه ما يحدث بالبلد، ولا يسعه أن يشارك في الإشراف على دستور باطل فرضته يد الانقلاب بالقوة لدحض إرادة الشعب المتمثلة في دستور 2012م.

 

بل أقول: يجب على جميع المصريين مقاطعة هذا الاستفتاء الباطل وعدم المشاركة فيه.

 

وليتحمل كل واحد منا ما كتب له أن يتحمله في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر؛ دعمًا للشرعية وتقويضًا لقوى الانقلاب والظلم والطغيان مستمسكين بالسلمية وعدم الاعتداء على الآخر وإن كان معتديًا. وأنا أقولها وأكررها «مستمسكين بالسلمية»؛ حتى لا أجدني متهمًا بالتحريض على العنف، كما اتهم غيري، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.