في المحنة التي يتعرض لها شيخنا الإمام يوسف القرضاوي بوضعه على النشرة الحمراء وطلب الإنتربول الدولي له، وهجوم الإعلام عليه، وحملات الأزهر "الرسمي" ضده، استحق أن تنتفض من أجله الأمة وعلماؤها ودعاتها من المشارق والمغارب كما انتفض لها ولقضاياها طوال حياته، وأن تهتم به كما اهتم بها، وأن تسانده كما ساندها، وهذا من علامات صدقه وإخلاصه، وإلا لكانت الأحداث تكشفت عن مكنونات الصدور وخفايا الضمائر، كما تمخضت الأحداث عن آخرين يتزيَّوْن بزي العلماء والعلم منهم براء، أولئك الذين باعوا دينهم بدنياهم، وبعضهم باع دينه بدنيا غيره. لقد انتفضت الدنيا خلال أسبوع تقريبا ضد هذا القرار الجائر؛ تضامنا مع الشيخ الإمام، ونصرة له، ورفضا لهذا العبث والجنون، ومقاومة لهذا الإفك والبهتان، فكتبت الهيئات بياناتها، وسطر العلماء والدعاة مقالاتهم وتصريحاتهم، وعقدت الفضائيات حلقاتها، ونشرت الصحف تقريراتها، ويكفي بيان علماء الأمة ومفكريها الذي وقَّعتْ عليه عَشْر هيئات علمية ودعوية، وأربع وخمسون وثلاثمائة عالم وداعية من أنحاء العالم، بل عقد مجلس القضاء الإسلامي بدولة جنوب أفريقيا مؤتمرا لنصرة الشيخ يوم 11 ديسمبر 2014م، الذي شارك فيه مجموعة من العلماء والمشايخ، على رأسهم: رئيس مجلس القضاء الإسلامي الشيخ إحسان هندركس.

 

 وقد مثَّل هذا كله "ملحمة" في حب الشيخ الإمام، و"تظاهرة" في نصرته ونصرة قضيته التي يجاهد من أجلها، ومنهجه الذي آمن به وتبناه ودعا إليه، وجاءت هذه الانتفاضة شاهدة بمكانة الشيخ في الأمة، وإمامته التي انعقدت له بين علماء عصره.

 

 إن الإمام القرضاوي أكبر مرجعية سنية إسلامية شرعية في العالم الإسلامي، وإن لم يتقلد منصبًا رسميًّا، وأول من دعا في عصرنا إلى التبشير في الدعوة والتيسير في الفتوى معا، وأكبر عالم معاصر ترجم له كتب بأكبر عدد لغات ممكن. إنه من العلماء النادرين الموسوعيين من الأحياء؛ حيث ارتادوا علوما كثيرة كتبوا فيها وأبدعوا وأجادوا وجددوا، فكتب شيخنا في الفقه والأصول ومقاصد الشريعة والفتوى والتفسير والعقيدة والاقتصاد والدعوة والفكر والتزكية والأسرة والدولة والسياسة، وغيرها.

 

 أقيمت عنه ندوات ومؤتمرات لتكريمه والبحث في فكره وفقهه، وصدر بذلك أعمال منشورة لم تقم عن غيره. أُخذت فيه رسائل ماجستير ودكتوراه، في الفقه وتجديده، وفي الأصول ومنهجه، وفي التفسير، والدعوة، والاقتصاد، وحسبك أن تعلم أن كتابه "الحلال والحرام" أخذت فيه رسالة ماجستير، فضلا عن الكتب والأبحاث التي كتبت عنه، والمؤتمرات التي أقيمت لفكره ومنهجه.

 

 أسهم في اقتلاع الفساد والطغيان من جذوره، بل كان من الآباء الكبار الذين حاربوا المستبدين والطغاة ممثلين في الأنظمة العربية المستبدة بفتاويه وخطبه وكتبه، فلم يبرز خطاب شرعي لعالم معاصر في الربيع العربي مثله، وكان الثوار يترقبون خطابه وخطبه وبياناته في الميادين العربية، وقد كتبت عنه كتابا نشر عام 2011م بعنوان: "القرضاوي الإمام الثائر، دراسة أصولية لمعالم اجتهاده في الثورة المصرية"، يرصد منهجه الشرعي وخطابه في هذه الثورات بمنطلقاته وقواعده الشرعية وخصائصه المنهجية وآثاره الداخلية والخارجية. جمع في شخصه مقومات وملكات العالم الرباني ...

 

 حاز التتلمذ على كبار مشايخ الأزهر، وكبار علماء الحركة الإسلامية المعاصرة، فجمع بين الفقه والواقع، والعلم والعمل، وراعى محكمات الشرع ومقتضيات العصر، وعمل على تحقيق مقاصد الشريعة ورعاية مصالح الناس.

 

أول من دعا للاهتمام بأنواع من الفقه معا: فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه الواقع، وغيرها.

 

أول عالم معاصر على قيد الحياة كوَّن مدرسة وتلاميذ، وكونت هذه المدرسة رابطة عرفت باسم "رابطة تلاميذ القرضاوي"، تجمع علماء ودعاة من جميع أنحاء العالم.

 

 هل يعني هذا أن القرضاوي ليست له أخطاء؟! كلا .. كلا .. ومن من العلماء ليست له أخطاء؟ ولكنها - كما قيل -: مغمورة في محيط جهاده وحسناته، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث!