إنها دائمًا البدايات الجميلة التي نعيشها بطبيعتنا وإنسانيتنا كاملة، زوج وزوجة وبيت وليد كل منهم يبذل ما عنده في سبيل إسعاد الآخر، جمعنا الحب وبارك لنا حب شرع الله والتمسك به، وقربت بيننا الطاعة المستنيرة لله وحده دون غيره، البساطة كانت عنوان بيتنا، والمودة ديدنه، يمر عام ثم عام، يأتي الطفل الأول، ثم الثاني ثم تزداد المتطلبات ليحمل كل هذا رياح تغيير على القلوب التي بدأت تتململ من ضيق الحال مع كثرة مستلزمات الأبناء الذين يكبرون يومًا بعد يوم وتكبر معهم احتياجاتهم اليومية، فكان لا بد من تغيير سياسة البيت الهادئ الوديع لتماشي مع ما استجد من ظروف، وتم الاتفاق على أن يتفرغ كل منا لما هو مطلوب منه من مهام في الحياة دون أن تكبله العاطفة عما هو مطلوب منه، فالزوج ينطلق في الحياة بلا تهاون وبلا كسل يبحث عن المزيد والمزيد من المال كي يرفع من مستوى الأولاد الذين لا ذنب لهم في أن يولدوا في أسرة رقيقة الحال، بينما تتفرغ الأم للتربية اللائقة بهؤلاء الوافدين الجدد الذين هم فلذة الكبد وروح الفؤاد، ليلف الصمت ذلك البيت الذي طالما علت فيه صيحات السعادة لتفيض على من حوله، ساد الصمت حين عاد الوالد لأول مرة من عمله الذي يستوجب منه المكوث بالخارج ساعات طويلة متتالية، عاد منهكًا تعبًا لا يستطيع ردًا على سؤال ولا حتى الاستماع لكلمة حب، ساد الصمت ليله الجمود المتسلل لتلك العلاقة الأسرية التي كانت في يوم من الأيام من أروع العلاقات الزوجية على الإطلاق. سنوات مرت علينا يلفها ذلك الجمود القاتل، كل يوم ككل يوم، متاهة لا خروج منها، ودائرة مغلقة لا تبيح الخروج عليها مهما حدث، إنجاب ولدنا الأخير لم يكن كافيًا لفك ذلك الحصار الغاضب الصامت البارد في علاقتنا معًا، المرض الذي ألم بأحد أولادنا وتشاركنا معًا في السهر والألم لأجله لم يكن كافيًا لإذابة الجليد العالق بها منذ تلك السنوات العجاف، أحداث كثيرة مرت بنا كانت كفيلة كل واحدة منها أن تعيدنا إلى ما كنا عليه يومًا في ذلك البيت الذي أنفقنا جل عمرنا في تثبيت أركانه وإظهاره بين الجميع في صورة محترمة تليق بمكانتنا وتمهد لمستقبل آمن لأبنائنا الذين أخذوا مني اهتمامًا فوق العادة، انشغل بالعمل خارج البيت ليجلب لنا مزيدًا من المال في ظل الظروف الطاحنة التي تمر بها البلاد ولا ترحم من يحب القعود أو يتواني في بذل كل جهده في البحث عن المزيد متماشيًا مع متطلبات الحياة التي تزداد يومًا بعد يوم، بينما انشغلت أنا مع أبنائنا في البيت لأربيهم كأحسن ما يكون، أخذوني منه كثيرًا، وكان كل عام يكبر فيه الأبناء يبعدني عنه أكثر، وكل عمل ينشغل به وكل مال كثير يتكسبه لنا يبعده أكثر وأكثر عني ويأخذه مني، ابتعدنا ولم نشعر بذلك البعد في أوله فانشغالاتنا أحدنا عن الآخر أخذتنا ولم تدع لنا وقتًا نفكر، كنت أدفعه للعمل وكان سعيدًا بنتاجنا معًا (أبناؤنا).

 

 يعود للبيت متأخرًا وربما لا يعود باليوم، باليومين، لا أسأل، المهم أنه في نهاية كل شهر يعطيني ما يكفيني لحياة كريمة وأكثر، حتى صار عندنا ما يكفينا لسنوات قادمة نحن وأبناؤنا وربما أحفادنا، كنا نلهث خلف الحياة وتلهث خلفنا، تعبت، الأبناء احتياجاتهم لم تعد تعتمد على الطعام والشراب والملبس الجيد وكلمة خطأ وعيب وحرام، المشكلات صارت أكبر بكبرهم، والاحتياجات للأب ازدادت ولم تعد توجيهات الأم وحدها تكفي، نظرت حولي وتلفت لأجده كي يشاركني مهامي التي أخذتها على عاتقي، لم أجده، أصبح اللهاث خلف الدنيا عادة لم يعد لديه القدرة على فراقها، قال لي لقد خالفت الاتفاق بيننا، أنت لك عندي احتياجاتك التي طلبتيها يومًا وليس أكثر، لا خرق للاتفاق الذي تم برضانا نحن الاثنين، لم يصبح زوجي، إنما أصبح آلة صماء تجلب لنا ما نحتاجه، تعبت، صرخت إليه عد إلينا، انتبهت لخطئي، لكن بعد فوات الأوان، لمته على ما فعلته أنا، أنا من قمت بوضع تلك القواعد، أنا من قتلت الإنسانية بيننا، أنا من حولت البيت إلى مجموعة آلات حين قسمت المهام ليس لتنظيم البيت وإنما لهدمه وأخرجت زوجي من إنسانيتي، أنا من فعلتها حين. كل ما أتمناه اليوم أن يكون لي زوجي كما كان زوجًا إنسانًا لا جالب مال، كل ما أريده أن أستعيد ذلك اليوم الذي كنا نتضاحك فيه من كل قلوبنا حين كنا نؤخر فيه الغداء ليصير عشاء في وجبة واحدة فنملأ قلوبنا رضا يكمل بروعته وجماله جوع البطون، أريد استعادة بيتي حيث كنت فيه معه هناك .