بتلاوته القسم الدستوري أمام نواب البرلمان يوم الإثنين الماضي كأول رئيس كامل الصلاحيات لتركيا بعد التعديلات الدستورية التي أقرت النظام الرئاسي؛ دشن الرئيس رجب طيب إردوغان الجمهورية الثانية في تركيا بعد الجمهورية الأولى التي أسسها كمال أتاتورك، وسار على قواعدها كل القادة اللاحقين بمن فيهم إردوغان نفسه، لكن لا يمكننا التكهن بمدى نجاح أو استقرار الجمهورية الجديدة على قواعد مختلفة إلا بعد مرور فترة كافية.

بعيدا عن تطورات المشهد التركي بعد الانتقال إلى النظام الرئاسي الذي يستهدف تحقيق درجة أعلى من الاستقرار السياسي للبلاد تمكنها من الوصول إلى المركز العاشر في الاقتصاد العالمي، من المهم لغير الأتراك ممن يعانون من نير الدكتاتورات والانقلابات العسكرية دراسة هذه التجربة التركية ومحطات تطورها المتتالية وصولا إلى لحظتها الراهنة، ومرورا بمحاكمة زعيم انقلاب 1980 الجنرال كنعان إيفرين والحكم عليه وشركائه بالسجن مدى الحياة عام 2014 ليموت بعدها بعام فقط.

تطويع العسكر

بالنسبة لدعاة الديمقراطية في مصر تبدو الخبرة التركية مهمة حيث عانت تركيا من 4 انقلابات عسكرية منذ العام 1960 اختتمت بمحاولة انقلابية فاشلة منتصف يوليو 2016، ولكنها استطاعت التعامل مع تلك الانقلابات، ونجحت في النهاية في تطويع العسكر للحكم المدني، وظهر ذلك جليا بشكل رمزي في مشهد ترسيم الرئيس إردوغان حيث انتقل الجنرالات من الصف الأول إلى صفوف خلفية، وقد سبق هذا المشهد الرمزي تغييرات دستورية عميقة أنهت نفوذ الجنرالات، وقصرته على شئونهم العسكرية التي أصبح الرئيس يشاركهم فيها أيضا.

كان الانقلاب الأول ضد رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس سنة 1960، وقد انتهى إلى إعدام مندريس نفسه، وكان الانقلاب الثاني ضد حكومة سليمان ديمريل عام 1971 عبر مذكرة طالبه فيها الجيش بالتنحي، ثم انقلاب الجنرال كنعان إيفرين عام 1980، والانقلاب الأبيض على حكومة رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان عام 1997، وأخيرا محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو تموز 2016.

رغم تشدده العلماني إلا أن مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك ترك خلفه قواعد سياسية مستقرة لحرية تشكيل الأحزاب، وحقها في المنافسة الانتخابية الحرة، وكانت تلك القواعد هي الباب الطبيعي لتأسيس الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية أو عودتها مجددا للعمل في صور جديدة بعد  قرارات حلها عقب كل انقلاب، وكان أكثر المستخدمين لهذا الحق هو الزعيم التركي نجم الدين أربكان الذي أسس مبكرا حزب النظام الوطني عام 1970، ثم أسس لاحقا وعلى فترات عقب كل انقلاب أو حظر 4 أحزاب بخلفية إسلامية دخلت في حكومات إئتلافية مع أحزاب علمانية، وقد تكرر الأمر ذاته مع بعض الأحزاب العلمانية التي تم حلها بعد الانقلابات فعادت في أثواب جديدة، وبأسماء جديدة أيضا.

مواجهة تنامي الظاهرة الاسلامية

لم تقترب الانقلابات التركية رغم الدموية الشديدة لبعضها مثل انقلاب 1960، وانقلاب 1980، من هذه القواعد السياسية التي سمحت بإعادة إنتاج الأحزاب المنحلة، وحقها في خوض الانتخابات، كما أن وجود كوادر كثيرة لدى الأحزاب كان يمكنها من تقديم وجوه جديدة، ولم يخش الشعب التركي تهديدات العسكر ولكنه لم يدخل معهم طيلة السنوات الماضية في أية مواجهة باستثناء المحاولة الإنقلابية الأخيرة، لكن الشعب كان ينتظر عادة الانتخابات ليعبر فيها عن رأيه، ويختار من يمثله، كما لم تحبط الأحزاب والقوى السياسية نتيجة تلك الإنقلابات ولم تسمح لأعضاءها وكوادرها  بالعمل المسلح، وخاصة منذ أوائل الثمانيينات، وظلت متمسكة بالمساحة الديمقراطية المتاحة، مع السعي لتوسيعها باستمرار.

في غالبية الإنقلابات التركية كانت الحجة هي مواجهة تنامي الظاهرة الإسلامية التي تمثل خطرا على العلمانية، وفي كل مرة كان أتباع هذا التوجه الإسلامي يزدادون عددا، وصولا إلى العام 2002 حيث تولى حزب العدالة والتنمية رئاسة الحكومة، وظل يحسن نتيجته في كل انتخابات تالية، محافظا على أحقيته بتشكيل الحكومة في كل مرة، ما وفر استقرارا سياسيا لم تشهده تركيا من قبل، حيث كانت تعاني من كثرة الحكومات الإئتلافية التي سرعان ما ينفرط عقدها ليتم تشكيل أخرى.

تعامل الإسلاميون الأتراك بذكاء كبير ومرونة فائقة مع كل المحطات المصيرية التي استهدفت وجودهم السياسي، وقد أشرنا قبلا إلى تخفيف النزعة الإسلامية في تجربتهم الثانية (حزب السلامة والتجارب اللاحقة) بعد حل أول تجاربهم (حزب النظام)، وكانت المرونة الأكبر عند إنشاء حزب العدالة والتنمية في العام 2001، فرغم أن مؤسسي الحزب هم تلاميذ أربكان، وأبناء مدرسته الإسلامية، بل إن زعيم المؤسسين وهو الرئيس الحالي رجب طيب أروغان دخل السجن بسبب توجهه الإسلامي عام 1998 ( على خلفية قصيدة المآذن حرابنا، والقباب خوذاتنا) إلا أن الحزب أصبح يحتضن أكثرية من غير ذوي الجذور الإسلامية، وأصبح من بين ممثليه في البرلمان وفي مواقع المسئولية سيدات غير محجبات مثلا، وقد شهدنا هذا التنوع الكبير في مؤتمراته الشعبية الانتخابية مؤخرا، ولكن هذا لا يعني أن الحزب أو قادته الأساسيين تخلوا عن جذورهم أو هويتهم، بل إن الرئيس أردوغان يحرص كلما سنحت له الفرصة على تأكيد هذه الجذور وتلك الهوية، ويعبر عنها بكلمات قاطعة في خطبه، وتصريحاته الصحفية، وفي زياراته الرمزية للمساجد التاريخية ولمنازل العلماء إلخ.

إنجازات التجربة

الأيديولوجيا أو العقيدة الدينية أو السياسية أمر أساسي لكل حزب أو كيان سياسي، لكن  التوقف عند الأيديولوجيا لا يمنح نجاحا لأحد، ولذلك فقد ركز حزب العدالة والتنمية على تحقيق إنجازات ملموسة للشعب على الصعيد الاقتصادي تحديدا بخلاف بقية الصعد الأمنية والسياسية والإجتماعية الخ، يكفي أن دخل المواطن التركي ارتفع خلال عشر سنوات من 3500 دولار سنويا إلى 11 ألف دولار، كما أن تركيا أصبحت في الترتيب الـ 16 ضمن أكبر الإقتصادات العالمية ( ضمن مجموعة العشرين الكبار  (G 20) ولذلك لم يكن غريبا أن تشهد تناقضا بين الموقف الأيديولوجي لبعض الأتراك المناهضين لأردوغان وحزبه، وفي نفس الوقت التصويت لهما في الانتخابات حفاظا على تلك المكاسب التي لم تتوقف على تحسن الدخول بل شملت الكثير من التحسينات في أوجه الحياة المختلفة، وحين مال الحزب إلى الاسترخاء قليلا عاقبه الشعب تصويتيا في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو 2015، ولم يحصل الحزب فيها على أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة، بل لم يتمكن من تشكيل حكومة ائتلافية، وهو ما دفع إلى إعادة الانتخابات في نوفمبر حيث فاز الحزب بأغلبية مكنته من تشكيل حكومته، وفي المرتين كرر البروفيسور أحمد داود أوغلو رئيس الحكومة  كلمته للشعب "وصلت رسالتكم"، وبعدها عاد الحزب ليعمل بجد للحفاظ على شعبيته وصولا إلى الانتخابات الأخيرة البرلمانية والرئاسية.

الإنجازات الملموسة، والخوف على الديمقراطية، والحكم المدني هي التي أخرجت الشعب التركي بكل تنوعاته وقواه السياسية لمواجهة المحاولة الانقلابية في 15 يوليو تموز 2016، وسقط عشرات الشهداء ومئات المصابين في تلك المواجهات التي حسمها الشعب بمعاونة القوات الخاصة لصالحه، ووضع بذلك نهاية حقيقية للانقلابات العسكرية في تركيا، وفتح الباب لتطوير النظام السياسي، وتعزيز المسار الديمقراطي.

بالتأكيد هناك فروق بين الدول والشعوب والنخب السياسية والعسكرية، لكن دروس تعامل الشعب التركي وقواه السياسية مع الانقلابات العسكرية، ومع التطورات السياسية المختلفة تبقى ملهمة لكل دعاة الحرية وخاصة في دول الثورات المضادة والحكم العسكري.

العدالة للشعب: الرسالة وصلت
------
*نقلا عن " الجزيرة مباشر"