لا يدرك أحد ما الثمار التي سيجنيها العالم من وراء مطالب السترات الصفراء، ولا يعلم أحد من الباحثين وأساتذة الاقتصاد مدى التغير الذي سيحدث في النظرية الاقتصادية بعد هذه الاحداث؛ نظرا لأنها شهادة شاهد من أهلها، وهذه الشهادة مهمة وضرورية بعد أن طفح الكيل من السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تحارب الفقراء والمهمشين طيلة قرابة الثلاثين عاما الماضية.

فمنذ اندلاع شرارة الاحتجاجات في فرنسا منذ قرابة الشهر وهي لم تهدا بعد، فما زالت الاحتجاجات مستمرة ومتصاعدة في المدن والريف الفرنسي وقد يمتد لهيبها إلى البلدان الأوربية الأخرى. 
 
واشتعل الموقف بعد ان رأت الحكومة الفرنسية فرض ضريبة على الوقود لتحقق غرضين أساسين أولا هو الحد من استهلاك الكربون تلبية لمتطلبات الحفاظ على البيئة، والآخر هو زيادة الإيرادات للموازنة العامة الفرنسية.
 
ولم يكن يحلم أحد من مواطني الدول الفقيرة بأن ينادى مواطن مقيم في فرنسا بأنه لا يستطيع أن يطعم أسرته، فقد عبر أحد الشباب 26 عاما متزوج وعنده طفلان: "نحن لسنا كسالى، نريد أن نعمل ولكننا نريد أن نطعم أسرنا" وأما الآخر فقد قال" نريد أن يعلم كل الفرنسيين ما نعانيه نحن الطبقة العاملة التي لا تستطيع أن تكفي نفسها" ومواطنة ثالثة تقول أنا على المعاش وعمري 62 عاما وأم لثلاثة أولاد وعشرة أحفاد تقول إن معاشاتنا لا تكفينا ولا نريد لأولادنا أن يعملوا من أجل لا شيء".
 
هذه الأمثلة حقيقة لا تعبر فقط عن أزمة في الاقتصاد الفرنسي بل إنها تعبر وبعمق عن أزمة حقيقية للفكر الاقتصادي الرأسمالي، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وما مثله من انهيار للاشتراكية في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، فقد بدا للدول الرأسمالية أن تكون هي المسيطرة على موازين القوى الاقتصادية العالمية دون منافس أو منازع.
 
فقد اخذت الدول الرأسمالية على عاتقها فتح كافة الأسواق العالمية لتصريف إنتاجها والسيطرة على الأسواق ومن هنا شرعت باستخدام صندوق النقد الدولي مطية لها حتى يجعل كل برامج الإصلاح قائمة على تجريد كل الدول الفقيرة والمتوسطة من كل عناصرها الإنتاجية وقواها الاقتصادية وفتح أسواقها.
 
فعمد صندوق النقد الدولي على الترويج لفكرة العولمة، وهي تقوم بالمقام الأول على توسيع وفتح الأسواق التي كانت مغلقة من قبل امام المنتجات، قامت برامج الصندوق على حرية التجارة وإلغاء التعريفات الجمركية وتقليص القطاع العام والسعي نحو الخصخصة وتخلى الدولة عن أي دور اقتصادي في تقديم الإنتاج من السلع والخدمات.
 
فعلى سبيل المثال، دولة مثل مصر، نفذت برنامج اصلاح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي استهدف بالمقام الأول بيع القطاع العام والتخلي عن العمالة و الغاء القيود على التجارة وإهمال التخطيط المركزي والتأشيري ووقف كل برامج الدعم والإعانات المقدمة بصفة عينية أو بصفة نقدية للأسر الفقيرة والمتوسطة والحد من الإنفاق على الصحة والتعليم، وفتح السوق المصري أمام كل المنتجات الأجنبية، فضلا عن البرنامج الأخير الذي استهدف الإجهاز على ما تبقى من قوى إنتاجية في مصر.
 
فما كانت النتيجة في دولة مثل مصر، سيطر حفنة من رجال الأعمال على مفاصل الاقتصاد من استيراد وانتاج السلع الأساسية والاستراتيجية للدولة كالحديد والصلب والسيارات والإسمنت والأسمدة والبتروكيماويات والأدوية والبترول والغاز والقمح، فخرجت مصر من حالة الاكتفاء الذاتي النسبي من إنتاجها وأصبحت تقريبا تعتمد على الاستيراد في كل شيء بعد أن كانت لها ريادة عالمية في تصدير منتجات مثل القطن والأرز، أصبحت مستوردا صافيا للقطن والأرز.
 
والسؤال الذي يطرح نفسه هل فتح الأسواق العالمية كان في مصلحة الدول الرسمالية الكبرى أم على العكس كان ضد مصالحها؟
 
فبعد صعود نجم الرأسمالية الليبرالية الحديثة على أيدي ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو في الستينيات من القرن الماضي، وهي قائمة بالمقام الأول على عودة الدولة إلى دورها التقليدي المرتبط بالأمن والدفاع والحد من قدرتها في إعادة توزيع الدخول أو فرض ضرائب جديدة مما أدى إلى تراجع شديد في الدخول وإعادة توزيعها.
 
ومن الجدير بالذكر ان نموذج باريس ليس هو الأول ولن يكون الأخير فنجاح القيادات في الانتخابات الديمقراطية الأخيرة سواء في إيطاليا أو فرنسا او الولايات المتحدة الأمريكية انما يعود بالمقام الأول لرغبة الطبقات العاملة والمتوسطة بتحسين مستوى معيشتها وتوفير فرص عمل تناسب طموحها، هذا الصعود يعكس إلى حد كبير فشل وتآكل النموذج الرأسمالي في موطنه الأم، فماذا يعنى ان الولايات المتحدة وهى التي قادت صندوق النقد الدولي لمزيد من فتح الأسواق ان تنادى هي بغلق الأسواق الامريكية امام المنتجات الصينية.
 
فالعديد من المصانع الأمريكية أضحت مغلقة في ولايات مثل بنسلفانيا ومتشجن وأوهايو لدعاوى حرية التجارة.
 
فالولايات المتحدة تستورد من الصين قرابة نصف تريليون دولار سنويا أغلبها منتجات أمريكية ولشركات أمريكية تنتج في الصين ثم تصدر إلى الولايات المتحدة.
 
وحقيقة الأمر أن القضية هي مع الشركات التي خرجت من حدود الدولة القومية إلى حدود مصلحة الشركة نفسها، فعملاق صناعة السيارات الأمريكي، شركة جنرال موتورز يسرح قرابة 15 الف عامل أمريكي ويغلق 5 مصانع في الولايات المتحدة وكندا، ثم يتسأل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لماذا لم تغلق جنرال موتورز مصانعها في الصين أو في المكسيك؟
 
وتساؤل الرئيس الأمريكي مردود عليه بطبيعة الحال وفق منطق الاقتصاديين بأن ما تحققه الشركة الامريكية من أرباح في الصين أكبر مما تحققه الشركة من أرباح في الدولة الأم.
 
كانت مصالح الشركات المتعددة الجنسية تصب لمصلحة الدولة القومية في النصف الأخير من القرن الماضي ولكن التطور الأخير في الرأسمالية العالمية جعل الرأسمالية تقف ضد الرأسمالية وضد مصالح الدولة القومية نفسها، فبعد أن كان الهدف هو فتح الأسواق الخارجية أصبحت الدول القومية الأم هي السوق الأول للترويج لهذه الشركات وتحقيق الأرباح دون أن تقوم بواجبها نحو دولة الموطن أو الأم.
 
فعلى سبيل المثال أكبر شركات التكنولوجيا في العالم وهي شركة أبل تصمم منتجاتها وتطورها يتم في معامل الشركة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية على حين أن إنتاج الآي فون iPhone ينتج في الصين وتايوان، واقع الحال أن الشركات الرأسمالية وليس الدول الرأسمالية هي التي جنت الأرباح وفي نفس الوقت جنت على مواطني الدول الرأسمالية.
 
فالدولة لم تعد تحقق الإيرادات التي تكفي للقيام بسداد نفقات الموازنات العامة ومن هنا فاغلب الدول الرأسمالية تحقق عجزا مزمنا في موازناتها العامة.
 
أيا ما كان الأمر فإن الرسالة الموجهة من السترات الصفراء هي رسالة بليغة ومهمة للغاية إلى صناع السياسات والمشرعين في الدول الرأسمالية، فحواها أنه لا عودة للدولة الحيادية التي تقف على الحياد، فمطالب السترات الصفراء هي في الواقع تريد بالدولة أن تعود إلى دورها الطبيعي من حماية الفقراء ومحدودي الدخل والطبقات المتوسطة وليس بالانسياق وراء مصالح الشركات الرأسمالية، واظن أن هذه الرسالة سيكون لها أصداء في بؤرة صناع القرار في العالم الرأسمالي وحسبي أن ذلك يغير من سياسات صندوق النقد الدولي التي فاقمت الأوضاع الاقتصادية في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء.