استنكر معهد أمريكي، انتهاج دول العسكر استراتيجية متعددة المسارات بهدف التحكم الكامل فى الفضاءات الرقمية وتقييدها. وقال معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، ومقره واشنطن، الذي يصدر تقارير دورية عن الأوضاع الأمنية في مصر، إن هذه الاستراتيجية تضمنت الرقابة عبر حجب المواقع الإلكترونية، والاعتقالات بناء على ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولات التهكير (القرصنة) الموجهة ضد النشطاء، وشرعنة تلك الممارسات من خلال جملة جديدة من القوانين.

وأوضح المعهد الأمريكي في تقرير له، أن الرقابة المفروضة بلا هوادة من جانب العسكر على مواقع المعارضة تكشف كيف أن الحملة حتى لو كانت صغيرة تعتبر مصدر تهديد كبير، الأمر الذي يمكن أن يُفهم منه أن نظام السيسي لا يشعر بالأمن وتعصف به التناقضات الداخلية، مؤكدا أن القمع الذي يمارس في مصر عبر الإنترنت يعيق النمو والديمقراطية معاً.

نص التقرير:

بعد حظر الاحتجاجات والسيطرة ببطء على وسائل الإعلام التقليدية، انتهجت الدولة المصرية استراتيجية متعددة المسارات بهدف التحكم الكامل بالفضاءات الرقمية وتقييدها، بما في ذلك الرقابة عبر حجب المواقع الإلكترونية، والاعتقالات بناء على ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولات التهكير (القرصنة) الموجهة ضد النشطاء، وشرعنة تلك الممارسات من خلال جملة جديدة من القوانين المتشددة. لقد مثل استفتاء شهر إبريل دليلاً إضافياً على هذا التوجه وشكل إنذاراً لما يمكن أن يأتي من بعد. وبينما تفاخر الحكومة المصرية بأن لديها خططاً لتحويل البلاد إلى مركز رئيس للخدمات الرقيمة لأفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، إلا أن نزوع الدولة نحو ممارسة الرقابة الرقمية يكذب مثل هذه المبادرات – ناهيك عن ذكر ما باتت الدولة تقيده من حريات في كافة المجالات.

كما أن الرقابة المفروضة بلا هوادة على مواقع المعارضة تبين كيف أن الحملة حتى لو كانت صغيرة تعتبر مصدر تهديد كبير، الأمر الذي يمكن أن يُفهم منه أن النظام الحالي لا يشعر بالأمن وتعصف به التناقضات الداخلية.

منذ أن وصل نظام عبدالفتاح السيسي إلى السلطة في عام 2013 وهو يعمل على تضييق الفضاءات المتاحة لتبادل المعلومات وتنظيم المعارضة. وشهدت تلك الفترة عدة موجات من الهجوم على الصحافة بما في ذلك قانون تنظيم الصحافة لعام 2018 وتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم وسائل الإعلام. بدأت الدولة بحجب المواقع بصورة جماعية في عام 2017 عندما تم حجب واحد وعشرين موقعاً في يوم واحد. أفاقت المؤسسات الإخبارية المستقلة، مثل مدى مصر، لتجد أن مواقعها على الإنترنيت باتت محجوبة تماماً داخل مصر دونما تعليق أو بيان رسمي من قبل النظام. ثم جاء قانون الجرائم الإلكترونية في عام 2018 ليضيف المزيد من القيود على النشاطات التي تتم من خلال الإنترنيت.

 

تعديلات الدستور

وعندما اقترحت الدولة تعديلات على الدستور المصري في شهر مارس ، تعاملت الحكومة مع التعديلات كما لو كانت أمراً واقعاً لا مفر منه. من الجدير بالذكر أن وسائل الإعلام المصرية إما أنها مملوكة للدولة أو تتحكم بها الدولة – كما أن وكالة المخابرات قامت بشراء وسائل إعلام مستقلة من خلال شركة إيجيل كابيتال، مما نجم عنه مستوى أعمق من المركزية – الأمر الذي أصبح مستحيلاً بسببه أن تتمكن المعارضة من التواصل عبر هذه المنصات التقليدية.

ولقد أخفقت الصحف والقنوات التلفزيونية المصرية في نشر شيء عن المعارضة التي جوبهت بها هذه التعديلات. وكانت أحزاب المعارضة، وبموجب قانون الاحتجاج، قد تقدمت من وزارة الداخلية بطلب ترخيص لتظاهرة احتجاجية سلمية ضد التعديلات الدستورية يوم الثامن والعشرين من مارس ، ولكن طلبها رفض بشكل قطعي.

وفي هذه الظروف، أطلق نشطاء مجهولون في التاسع من إبريل موقعاً لحملة اسمها باطل بهدف معارضة التعديلات الدستورية. تقول حملة باطل إن الاستفتاء على الدستور يوم الثاني والعشرين من إبريل ، والمسار السياسي في مصر بشكل عام، كلاهما فاقد للشرعية. تضمن موقع الحملة أداة للتصويت تدعو المصريين للمشاركة في استفتاء حر ونزيه وللتعبير عن آرائهم الحقيقية بشأن التعديلات المقترحة.

وطالبت المصريين بالإعلان عن أن التعديلات باطلة وذلك من خلال التوقيع على الاستفتاء. وبنهاية يوم التاسع من إبريل تم حجب الموقع عن الظهور في كل واحدة من الشركات الأربع التي تقدم خدمات الإنترنت في مصر.

 

حملة باطل

كانت تلك بداية لعبة لا نهاية لها بين منظمي حملة باطل وسلطات الأمن المصرية. فكلما صدرت نسخة جديدة من الموقع الإلكتروني سارعت السلطات إلى حجبها خلال ساعات من صدورها. بالإضافة إلى سلسلة المواقع الإلكترونية والمرايا التي لديها، تشتمل الحملة أيضاً على آلية تصويت عبر ماسنجر الفيسبوك وتطبيق الرسائل التابع لبرنامج تلجرام وكذلك عبر البريد الإلكتروني. بنهاية فترة التصويت المقررة في الثاني والعشرين من إبريل، زعمت حركة باطل أنها استقبلت سبعمائة ألف صوت كلها يعارض التعديلات.

كان أول موقع إلكتروني لحملة باطل المعارضة للتعديلات الدستورية في عام 2019 هو فويس أونلاين دوت نيت، والذي ظهر في وقت مبكر في التاسع من إبريل. وبحسب وما ذكرته نيتبلوكس، وهي منظمة رصد للإنترنيت متخصصة في قياس ونشر أخبار الإغلاق والحجب الذي تتعرض له مواقع الإنترنيت عبر العالم، تم حجب الموقع في جميع شركات خدمات الإنترنت المصرية الأربع خلال 12  ساعة. سارعت حملة باطل بعد ذلك بإطلاق اسم نطاق جديد (يطلق عليه أيضاً "مرآة") في اليوم التالي، وما لبث هذا أن تعرض للحجب مباشرة تقريباً.

استمر هذا النمط يومياً حتى آخر يوم في التصويت في الثاني والعشرين من إبريل ، حتى صار إجمالي عدد المواقع المرايا على الإنترنت عشرة مواقع، كلها أطلقت ثم حجبت خلال فترة أسبوعين اثنين.

لا يكاد ينافس في السرعة التي تتم بها مثل هذه الرقابة وفي الإصرار عليها إلا عدد قليل من الأنظمة غير الليبرالية والسلطوية مثل تركيا والصين. من الواضح أن منظمي حملة المعارضة ووكالات المخابرات، كليهما، كانا على استعداد لخوض معركة طويلة المدى من الرقابة ومحاولات الالتفاف حولها.

إلا أن ما لم يكن واضحاً هو نوايا الدولة عندما نشرت منظمة نيتبلوكس تقريراً قالت فيه إن أربعة وثلاثين ألف اسم نطاق تم حجبها في الخامس عشر من إبريل وذلك أنه بعد أيام قليلة فقط من الإطلاق المبدئي لأول موقع لحملة باطل، أفادت نيتبلوكس بأن عنوان بروتوكول الإنترنت الذي يستضيف حملة باطل وكل مراياه قد تم حجبه. من الممارسات الشائعة أن تقوم المصالح التجارية بتحميل موقعها الإلكتروني على خدمة استضافة مشتركة، بحيث يصبح عنوان بروتوكول إنترنت واحد موطناً للمئات (وربما حتى الآلاف) من أسماء النطاقات المختلفة.

 

أوجدت حملة باطل سلسلة من أسماء النطاقات المختلفة المستضافة على نفس اسم عنوان بروتوكول الإنترنت للالتفاف على ما يمارسه النظام من رقابة. ولكن يظهر أن المخابرات المصرية قررت حجب بروتوكول الإنترنت المعني بأسره مما تعذر معه نتيجة لذلك الوصول إلى أربعة وثلاثين ألف موقع إنترنت أخرى داخل البلاد.

ثم تحدثت منظمة نيتبلوكس عن حجب آخر عجيب. لم يكن متاحاً لفترة قصيرة في الثامن عشر من إبريل الوصول إلى خدمة بيتلي لتقصير عناوين المواقع. تسمح هذه الخدمة للزبائن بعمل روابط مختزلة يمكن من خلالها الوصول إلى نفس الصفحة المطلوبة. نتيجة لحجب هذه الخدمة فإن ما يقرب من 34 مليار رابط سيتم كسرها، مما سيعيق بشدة العمليات اليومية التي تقوم بها كثير من المصالح التجارية من خلال هذه الخدمة.

 

مطرقة هدم

ما لبثت الخدمة أن أعيدت من جديد بعد ساعات قليلة من نشر نيتبلوكس لتقريرها. في كل الأحوال، يثبت ذلك أن الدولة لا تخشى استخدام مطرقة هدم كبيرة لكسر حبة بندق، وتلك منهجية في الرقابة تبعث على القلق الشديد.

هناك تفسيران محتملان لإجراء حجب عنوان بروتوكول الإنترنت المشترك وكذلك خدمة بيتلي لاختزال الروابط: الأول، أنه من المحتمل أن تكون مصر قد اشترت أدوات التشويش على الشبكات من شركة اسمها ساندفاين تأسست أصلاً في كندا، وهي التي تنتج هذه الأجهزة. من المحتمل أن من طلبوا الحجب لم يكونوا مستوعبين لمدى الضرر الذي سينجم عن حجب عنوان بروتوكول الإنترنت لموقع استضافة مشترك. ربما بادر مسؤول معرفته الفنية محدودة بطلب حجب الموقع بأي ثمن دون أن يدرك العواقب المحتملة لذلك. والثاني، أن من المحتمل أن من يتحكمون بالأجهزة كانوا على علم تام بما كان سينجم عن حجب عنوان بروتوكول الإنترنت وحجب بيتلي، ولكنهم لم يعبأوا بذلك.

كلا التفسيرين لا يبشران بخير بالنسبة لمستقبل حرية الوصول إلى المعلومة وحرية التعبير في مصر: فإما أنه توجد وكالة مخابرات على درجة متدنية من الكفاءة هي التي تتحكم بالبنية التحتية لمنظومة الرقابة على الإعلام أو أن حدوث مثل هذا الضرر الكبير لا يشكل عامل ردع كاف للنظام.

 

أضرار التشويش

يشير ما وثقته منظمة نيتبلوكس من نمط رقابة على المعلومات أثناء إجراء الاستفتاء على الدستور إلى أن النظام لا يشعر بالأمن ويعاني من تناقضات داخلية شديدة. بالرغم مما بذلته من جهود، إلا أن حملة باطل كانت محدودة في قدرتها على الوصول إلى الناس، فبحلول اليوم الأخير من الاستفتاء كان عدد المتابعين لحسابها على تويتر أقل من عشرة آلاف متابع، ومع ذلك أصر النظام على المضي بعيداً في السعي لإخماد حملة معارضة صغيرة الحجم.

وحتى لو كانت الأجهزة الأمنية في بداية الأمر غير مدركة للأضرار الناجمة عن التشويش فلابد أنها أدركت ذلك بعد صدور تقرير نيتبلوكس وانتشاره على نطاق واسع. إن استعداد هذه الأجهزة للقبول بما سينجم من أضرار بليغة إنما يؤكد أنها لا تشعر بالأمان وبأنها مرعوبة من الإنترنيت ومن إمكانية أن تؤدي تارة أخرى إلى إشعال حراك شعبي كبير. وأخيراً، لطالما تفاخر السيسي بأن لديه خططاً لتحويل مصر إلى مركز رقمي رئيس لخدمة أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. إلا أن استعداد النظام لحجب مواقع معينة أياً كان الثمن يتناقض مع ذلك الهدف.

يزيد عدد المواقع المحجوبة حتى اليوم داخل البلاد عن خمسمائة موقع، بما في ذلك الكثير من المواقع الإخبارية المستقلة ومواقع وسائل الإعلام والمنظمات السياسية. ولسوف يكون صعباً للغاية على مصر أن تجذب الاستثمارات المرغوب بها من قطاع التكنولوجيا إذا ما بات حجب مواقع تقدم خدمات أساسية، مثل موقع بيتلي، ممارسة معتادة.

تكشف الرقابة التي لوحظت أثناء إجراء الاستفتاء عن نظام لا يشعر بالأمان ومتناقض مع ذاته. لا يوجد ما يشير إلى أن القيود المفروضة قد تخف. لقد تم في شهر يوليو توقيف مدير مجموعة فيسبوك معروفة بدعم الرئيس السابق حسني مبارك ومازال رهن الاعتقال، وذلك على الرغم من أن سياسة المجموعة تنسجم بشكل عام مع توجهات النظام.

في حالة أخرى، اقترح أحد المراقبين تغريم صحفيين اثنين بسبب تعليقات وردت منهما في حسابهما الشخصي في فيسبوك. في هذه الأثناء، أثبت النظام ومعارضوه أن لدى كل طرف منهما الإرادة والقدرة على تطوير قدراته الفنية بهدف إبطال مفعول ما يقوم به الطرف الآخر.