لم يلتفت كثيرون لأن من دعا إلى استضافة سلطة الانقلاب في مصر لمؤتمر عن التعذيب كان يستهدف تجميل وجه الانقلاب الأسود، كان موظفون بالأمم المتحدة منهم روبرت كولفيل، المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبدون عرض الأمر بتفاصيله على ميشال باشليت رئيسة مفوضية حقوق الإنسان.
بل إن منظمات حقوقية مصرية اكتشفت بالصدفة عقد المؤتمر بمصر ولم يتم دعوتها.. ما يشير لطبخ استضافة المؤتمر بين سلطة الانقلاب التي صدرت المجلس القومي لحقوق الإنسان الحكومي ليشارك في تنظيم المؤتمر وموظفين في الامم المتحدة بترتيب مع دول كبرى تعاون الانقلاب خصوصا أمريكا وفرنسا، بعيدا عن المنظمات الحقوقية الفعلية.
لهذا صدرت دعوات من حقوقيين مصريين لـ "باشيليت" كي تحاسب موظفيها الذين أبرموا الصفقة، التي تم فضحها فاضطرت الأمم المتحدة لتأجيلها لمزيد من المشاورات والاعتراف أن سبب تأجيل مؤتمرها عن التعذيب هو غضب المنظمات الحقوقية، وأن تعترف بأنها لم تتشاور مع كل الأطراف قبل أن تقرر عقده بمصر، وتعد بإجراء هذه المشاورات قبل تحديد مكان والموعد الجديد للمؤتمر!!
وألمح محمد زارع مدير برنامج مصر في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لهذه الصفقة حين أبدى سعادته لإلغاء المؤتمر قائلا "الجوازه باظت" وقال إنه "لا يمكن لدولة يكون فيها التعذيب فيها منهجياً أن تستضيف مؤتمرا للتعذيب"!!
ويبدو أن سلطة الانقلاب والقوى الدولية التي تعاونها ضد الربيع المصري حاولت مداراة هذه الفضيحة باستضافة فرنسا للسيسي في اجتماع دولي آخر يناقش مكافحة اللامساواة، كما يدرس الانقلاب «الاستمرار في عقد المؤتمر في موعده، بعيدًا عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أو التفاوض معها على موعد آخر ليعقد في القاهرة أيضًا»، حسبما قال حافظ أبو سعدة، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان.
ومثلما تدخلت منظمات حقوقية مصرية ودولية لاستنكار استضافة مصر مؤتمرا عن التعذيب وهي الدولة التي يمارس نظامها التعذيب علنا، استنكرت دعوة فرنسا للسيسي وطالب "ماكرون" بتبني عدد من مطالب حقوق الإنسان للمصريين ومناقشتها خلال اجتماعه مع السيسي، بما في ذلك ما سبق أن أثاره من مطالب حقوقية عند اجتماعهما السابق في القاهرة يناير الماضي.

الإلغاء ليس حلا
برغم ترحيب المنظمات الحقوقية المختلفة بإلغاء مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عقد مؤتمرها الخاص بالتعذيب في القاهرة، استجابة لاحتجاجات حقوقية، بعدما أثار عقد المؤتمر في بلد متهم بممارسة التعذيب موجة انتقادات واسعة بسبب سجل مصر السيئ في هذا المجال، فقد اعتبر حقوقيون أن هذا ليس حلا وأنه يجب محاسبة الانقلابيين على تعذيبهم وقتلهم المصريين ومنع استضافة مصر أو حضورها أي مؤتمر دولي كعقاب لها.
وجاء تأجيل المؤتمر (إلغاؤه) بعدما بعث 80 من الحقوقيين والنشطاء المصريون خطابا للمسئولين الدوليين أكدوا فيه أنه "لا يجب على الأمم المتحدة أن تسهم في تجميل صورة النظام المصري"، وأعربوا عن "صدمتهم الشديدة" من عقده بمصر. (أقرأ: نص الخطاب).. حيث اعتبروا عقد المؤتمر بمصر "محاولة واضحة لتبييض جرائم النظام المصري قبل مثوله للمراجعة الدورية الشاملة في نوفمبر 2019 لعرض ما "أنجزه" من تقدم في مجال حقوق الإنسان.
وطالب الحقوقيون بتغيير مكان المؤتمر لدولة "تتمتع بالحد الأدنى من احترام حقوق الإنسان" وليس مصر لأنها "تمارس التعذيب الممنهج"، و"تلاحق المنظمات الحقوقية".
وأوضحوا أن مصر مسجل بها من 2014 إلى 2018 قرابة 1723 شكوى من تعذيب فردي و677 تعذيب في أقسام الشرطة والسجون ووفاة 534 في أماكن الاحتجاز منهم 189 نتيجة التعذيب، وأنه "في حال عقد المؤتمر في القاهرة لن يتمكن أي حقوقي مصري مستقل لا يخضع لنفوذ السلطة المصرية من حضور فعالياته، وهو ما يعني أن تغيب عنه أصوات الضحايا وتهيمن عليه أصوات جلاديهم".
واعتبر "بهي الدين حسن" تأجيل المؤتمر "صفعة قوية لنظام السيسي والتعذيب وتحوُّل القاهرة لعاصمة التعذيب في العالم العربي" ووجه شكره لمسئولي الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية الذين رفضوا المشاركة في هذه "الفضيحة".
وقال عمرو مجدي من منظمة هيومان رايتس إن تأجيل مفوضية حقوق الإنسان المؤتمر الخاص بالتعذيب في القاهرة "إلى أجل غير مسمى" معناه "عدم تنظيمه في القاهرة"، واعتبره "تصحيح مسار" يسهم في وقف التعذيب وليس "تبييض وجه حكومة طاغية مستبدة".

التعذيب قرار السيسي
لأن التعذيب قرار السيسي نفسه وليس من بنات أفكار أجهزته القمعية فقد طالبت 13 منظمة حقوقية مصرية بمحاسبته لأن "هناك ضوءا أخضر من أعلى المستويات السياسية للاستمرار في جريمة التعذيب وضمان إفلات مرتكبيها من العقاب".
وقالت – في بيان -إن سجل ممارسات الحكومة المصرية لا يعكس أية إرادة سياسية لمكافحة التعذيب، بل على العكس تحارب الحكومة كافة الجهود المبذولة لوقف هذه الممارسات التي هي على رأس قائمة المتهمين بالضلوع فيها.
وأوصت المنظمات الحقوقية الهيئات الدولية بمقاطعة أية فعاليات أو مؤتمرات حقوقية برعاية الحكومة المصرية ومجالسها القومية، ورفض استضافة مصر لأي مؤتمر حقوقي دولي أو أممي. وسبق أن أكد حقوقيون مصريون وأجانب في ندوة للأمم المتحدة في جنيف، يونية 2018 عن "التعذيب والعدالة في مصر"، قتل 106 مصريين في أماكن الاحتجاز والتعذيب (من سبتمبر 2017 الي مايو 2018).
كما رصدت التنسيقية المصرية في تقرير "التعذيب جريمة في حق الإنسانية"، 32 حالة وفاة إثر التعذيب المباشر، و1344 حالة تعذيب في الفترة من يناير 2015 وحتى نهاية يونيو 2016.
كما أكد تقرير لمعهد "كارنيجي" الأمريكي للسلام، أن "التعذيب هو وسيلة القمع الأساسية في مصر"، وأن التحقيقات العالمية اثبتت أن مسؤولين على أعلى مستوى في الأجهزة الأمنية يشرفون على التعذيب الذي أصبح "غاية في ذاته".
وبمناسبة "اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب، "كشف تقرير لـ "مركز عدالة" بعنوان: "تعذيب أفضى إلى موت"، قتل الشرطة 32 حالة تعذيبا، أثناء الاحتجاز، في الفترة من يونيو 2014 حتى بداية يونيو 2018.
أيضا في يناير 2017 انتقد البرلمان الأوروبي بيع الحكومات الاوروبية أجهزة تعذيب لمصر، وصوت على مشروع قانون (غير ملزم) يمنع تصديرها وطالبت عضوة البرلمان "ماريتا شخاكا" الاتحاد الاوروبي بوقف "اللهجة الناعمة ضد نظام يقوم بتعذيب مواطنيه"، بحسب موقع البرلمان الأوروبي.
وقالت منظمة هيومان رايتس وواتش سبتمبر 2017 إن 30 شخصا ماتوا تحت التعذيب أثناء احتجازهم بين أغسطس 2013 وديسمبر 2015، و14 ماتوا من التعذيب أثناء الاحتجاز.  

الامم المتحدة "إخوان"!
والغريب بعد كل هذا استغرب المجلس القومي لحقوق الإنسان (حكومي) من تراجع المنظمة الدولية عن اختيار مصر لاستضافة المؤتمر، ومشاركة حزب التجمع اليساري –الذي كان يرفع لواء الدفاع عن حقوق الإنسان– في استنكار تراجع الأمم المتحدة عن عقد المؤتمر لحد اتهامه المنظمة الدولية أنها إخوان!!
حيث زعم حزب التجمع اليساري في هجومه على المنظمة الدولية بأنها "تنحاز لداعمي الإرهاب على حساب حقوق الشعوب"، وأن التأجيل له علاقة بـ "مخططات ومؤامرات تنظيم الإخوان.. وداعميه من دول الفتنة والفوضى، بهدف عزل الدولة المصرية عن محيطها الإقليمي والدولي"!!
وهو ما يبين حجم الانحطاط الذي وصلت له العديد من القوى والأحزاب السياسية بعدما اخترقها الانقلاب ووضع على رأسها قادة أحزاب يتحدثون باسم السيسي ويسبحون بحمد قراراته، ما يطرح سؤالا: كيف نجحت سلطة الانقلاب في توظيف أحزاب معارضة عريقة مثل الوفد والتجمع اليساري لخدمة الانقلاب وإصدار البيانات التي تساند السيسي وقمعه؟ الأمر يحتاج بحثا حول كيفية التغلغل الأمني وتعيين موالين للأجهزة الأمنية في المناصب أو إمساك شيء عليهم أو الحصول على مزايا؟!