فازت الديمقراطية في تونس، في ثالث انتخابات تشريعية ورئاسية منذ الربيع العربي، وباتت التجربة مستقرة بعدما انحاز الجيش الي الخيار الوطني؛ ما جعل الشعب يختار بحرية ويبدل اختياراته بين انتخابات واخرى.

ولكن المعلم البارز في انتخابات البرلمان الأخيرة هو اختيار الناخبين التونسيين حزب النهضة الإسلامي - الذي تصفه دوائر غربية وخليجية بأنه تيار قريب من الإخوان المسلمين - وفوز الحزب بالمركز الأول في الانتخابات بـ40 مقعدا.

وكانت مفاجأة الشعب التونسي أنه على حين ابتعد عن اختيار الشخصيات الحزبية التقليدية في انتخابات الرئاسة - بمن فيهم مرشح النهضة وقائد الجيش السابق، والاحزاب الكبرى واختيار شخصيات مستقلة مغمورة واندثرت أحزاب كانت بالأمس حاكمة وتقدمت أخرى - اختار الشعب نفسه مرشحي حزب النهضة في انتخابات البرلمان.

وبموجب هذا التداول الحر للسلطة لثلاث مرات بعد الثورة، حق لتونس أن تشعل شرارة التغيير من جديد وبأدوات جديدة، وتشهد الثورة المضادة أفولا مستمرا يبشر بصعود جديد للربيع العربي في دول المنطقة، ظهرت بوادره في مصر والجزائر والسودان والعراق والأردن.

وبطبيعة الحال أزعج تصدر حركة النهضة الانتخابات التشريعية في تونس أوساطا خليجية سعودية وإماراتية، دعمت الثورات المضادة في العالم العربي، حتى إنه حين سئلت مذيعة قناة "العربية"، في تونس: أليس هناك عزوف عن انتخاب الأحزاب الإسلامية؟ لم تجب المراسلة، وعقدت الصدمة لسانها؛ لأن النتائج جاءت مبشرة بتقدم الإسلاميين.

كما أزعجهم أيضا كيف تبخّر وتلاشى حزب "نداء تونس" العلماني الذي أسّسه الرئيس الراحل السبسي وحصل على دعم إماراتي؛ لأنه فقد كل مقاعده في البرلمان وفاز بمقعد واحد فقط لا غير بعدما كان له 80 مقعدا!!.

هل سيشكل النهضة الحكومة؟

برغم إعلان حركة النهضة فوزها بالانتخابات التشريعية التونسية، لتنطلق بذلك في مسار تشكيل الحكومة، فإن هذا المسار سيكون صعبا وعسيرا، خصوصا أن الأرقام التي تحصلت عليها لا تمنحها أغلبية مريحة لمنحها الثقة في البرلمان.

فقد فازت النهضة بنسبة 17.5% من الأصوات (المقاعد)، يليها حزب "قلب تونس" لرجل الأعمال المسجون والمرشح الرئاسي "القروي"، في المركز الثاني بـ 15.6%، والحزب الدستوري الحر بالمركز الثالث بـ 6.8%، وقائمة ائتلاف الكرامة في المركز الرابع بـ 6.1%، والتيار الديمقراطي بـ 5.1%.

بموجب هذه النتائج يحصل حزب النهضة على 40 مقعدا فقط، من أصل 217 نائبا في البرلمان، يليه حزب قلب تونس بـ 33 مقعدا، وائتلاف الكرامة بـ 18 مقعدا وحزب تحيا تونس بـ 16 مقعداً، وحركة الشعب بـ 15 مقعدا، ثم الحزب الدستوري وحزب التيار الديمقراطي 14 مقعدا لكل منهما.

والمشكلة أنه رغم فوز حركة النهضة بالمركز الأول في الانتخابات التشريعية، ما سيمنحها الحق في اختيار رئيس الحكومة وفريقه الوزاري وفق ما ينص عليه الدستور التونسي، فإنها ستكون في حاجة للحصول على تحالف قوي مع الأحزاب الأخرى.

والاهم أن تضمن الحصول على أغلبية 109 أصوات من أصل 217 نائبا في البرلمان لتمرير هذه الحكومة، في ظل سيطرة تيارات ليبرالية على البرلمان، بعضها يعادي الإسلاميين.

ويزيد من أزمة حركة النهضة إعلان 4 أحزاب من بين الستة أحزاب الفائزة بالمراكز الأولى أنها لن تتحالف مع النهضة، وهي: حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب، وحزب "قلب تونس" والحزب الدستوري الحر، والتي تستحوذ على 77 مقعدا من 217 هي مجموع المقاعد.

حيث اعتبر حزب قلب تونس (صاحب المركز الثاني)، والحزب الحر الدستوري (صاحب المركز الثالث) أن التحالف مع النهضة خط أحمر، فيما أعلن التيار الديمقراطي الفائز بالمركز الخامس أنه سيكون في صفوف المعارضة ولن يتحالف مع الحزب الفائز، حاله كحال حركة الشعب صاحبة المركز السادس، والتي أعلنت بدورها أنها لن تدخل في أي تحالف حكومي مع النهضة.

وينص الفصل 89 من الدستور التونسي على: "يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، بتشكيل الحكومة خلال شهر يجدد مرة واحدة".

وفي حال فشل الحكومة بنيل ثقة أغلبية أعضاء البرلمان يكلف الرئيس شخصية أخرى بتشكيل الحكومة، بالتوافق مع القوى السياسية في البلاد، وإذا مرت 4 أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه 45 يوما وأقصاه تسعون يوما".

ربما لهذا توقع مراقبون أن تدخل البلاد جولة انتخابات جديدة مبكرة في ظل عدم حسم الأغلبية لأي حزب، أو تشكيل النهضة حكومة مع أحزاب أخرى، ولكنها قد تواجه عقبات في البرلمان وصراعات تتدخل فيها قوى خارجية داعمة للثورة المضادة لمنع الإسلاميين من تشكيل حكومة.

ومع هذا يمكن للنهضة أن تصبح ذات وزن سياسي ثقيل لو تحالفت مع إسلاميي ائتلاف الكرامة الذي يرأسه سيف الدين مخلوف، ومع المستقلين، وتتقرب من حزب التيار الديمقراطي لتصبح قادرة على تسيير مشاورات تشكيل الحكومة.

وقد أعلن ائتلاف الكرامة أنه لا مانع لديه في التحالف مع النهضة، ويتوقع مراقبون انضمام أحزاب أخرى للائتلاف البرلماني "الحاكم" على غرار حزب تحيا تونس وحزب البديل التونسي، وقد يشكل النواب المستقلون والنواب الفائزون عن قوائم ائتلافية طوق نجاة لحركة النهضة ويمنحونها ثقلاَ برلمانيا قد يصل بها في نهاية المطاف لأغلبية الـ 109 أصوات.

وتختلف نتائج الانتخابات البرلمانية للعام 2019 عن نتائج العام 2014 بفوز حزبين كبيرين بأغلبية الأصوات؛ حيث تصدر "نداء تونس" (ليبرالي)، بقيادة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، بـ86 نائبًا، وتبعته حركة "النهضة" بـ69 نائبًا؛ ما يعني تقلص مقاعد النهضة رغم فوزها بالمركز الأول.