الشعوب الغربية مثلها مثل بقية الشعوب أخذت بالأسس العلمية فتقدمت ورسخت معاني الديمقراطية فيما بينها، غير أن حكومات دولهم (ومن أجل توفير سبل الرخاء لهذه الشعوب) سعوا لاحتلال واستغلال ثروات العديد من الشعوب الضعيفة والفقيرة والتي لم تستطع الاستفادة من ثرواتها، ومن ثم أفرخت الحركات الاستعمارية العديد من الحركات التحررية ضد الدول الاستعمارية، والجيوش الرابضة على أراضيها أو التدخل في شئونها الداخلية، أو فرض هوية غير الهوية التي تؤمن بها، ولذا كانت النظرة مختلطة بين الساسة والحكومات الغربية وبين الشعوب الغربية الراضية بما يقوم به السياسة من قتل وإرهاب للشعوب الفقيرة ولذا جاءت معظم الكتابات والنداءات ضد المستعمر الغربي دون تفرقة بين الشعوب وبين الجيوش والسياسة، وهو ما ترك مجالا للفهم الخاطئ في كتابات المصلحين أو الزعماء السياسيين.

وحينما نشأت جماعة الإخوان المسلمين كان على رأس أهدافها في هذه المرحلة تحرير البلاد والشعوب من المستعمر الغربي بكل السبل حتى ولو رفعت الشعوب العربية والاسلامية السلاح في وجه المستعمر للحصول على حقوقك وحريته، وهو ما حدث بالفعل في الكثير من الدول، غير أن الإخوان عامة والإمام البنا خاصة حرص على التفرقة في المعاملة بين الشعوب الغربية وساستهم الاستعماريين، فحث على محاربة الجيوش والتصدي لسياسة الساسة الاستعماريين، في مقابل حث على أخذ العلم وسبل الرقى والتقدم من الشعوب الغربية التي أولت العلم أولوية خاصة، وهو ما طالب به الإمام حسن البنا في العديد من كتاباته.

يوضح حسن البنا موقف العقل العربي والمسلم آنذاك من الحضارة الغربية هذا الموقف الحدي على طرفي النقيض بين الرفض المطلق والقبول المطلق ويذكر بأن "الرأي العام العربي يذهب في هذه الناحية مذهبين مختلفين: فمن الناس من يدعو إلى الحضارة الغربية ويحض على الانغماس فيها وتقليد أساليبها "خيرها وشرها، حلوها ومرها، نافعها وضارها، ما يحب منها ما يعاب"، ويرى أنه لا سبيل للنهوض والرقى إلا بهذا "ومن زعم لنا غير ذلك هو خادع أو مخدوع، ومن الناس من ينفر من هذه الحضارة أشد التنفير، ويدعو إلى مقاومتها أشد المقاومة، ويحملها تبعة هذا الضعف والفساد الذى استشرى في الأخلاق والنفوس. ولا شك أن كلا الفريقين قد تطرف، وأن الأمر في حاجة إلى دراسة أعمق وأدق، وإلى حكم أعدل وأقرب إلى الإنصاف والصواب".

ويدعو البنا إلى تقديم قراءة منصفة للحضارة الغربية ونبذ القراءة الحدية, أي الوقوف على ايجابيتها وسلبياتها انطلاقًا من مبدئية العدالة المطلقة في النهج الإسلامي "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" "المائدة:8".

لقد وصلت الشعوب الغربية من حيث العلم والمعرفة واستخدام قوى الطبيعة والرقى بالعقل الإنساني إلى درجة سامية عالية، يجب أن تؤخذ عنها وأن يقتدي بها فيها، وهى إلى جانب ذلك قد عنيت بالتنظيم والترتيب وتنسيق شئون الحياة العامة تنسيقا بديعا يجب أن يؤخذ عنها كذلك، وهذه الحقائق لا يكابر فيها إلا جاهل أو معاند، ولكن هذه الحياة الغربية والحضارة الغربية التى قامت على العلم والنظام فأوصلها إلى المصنع والآلة، وجبى إليها الأموال والثمرات، وملكها نواصي الأمم الغافلة التى لم تأخذ في ذلك أخذها ولم تصنع صنيعها.

ويشخص برؤية نقدية نقائص الحضارة الغربية والتي أهمها من وجهة نظره هو ما لحق بالإنسان من تشويه لفطرته وانتصار للمادية عليه وغيب القيم الروحية وبروز قيم المادية والنفعية في أسوأ صورها وتغليب نظريات الصراع الإنساني هذه الحياة المادية الميكانيكية البحتة مع ما صحبها من خصومة حادة بين علماء الدنيا وحراس الدين قد أغفلت هذه الأمم عن أخص خصائص الإنسانية في الإنسان عن الغرائز ومستلزماتها، والمشاعر ومطالبها، والنفس وعالمها، وطرائق تنظيم ذلك كله وضبطه ضبطا يضمن خيره ويحبس شره، ودفعت بها دفعا عنيفا إلى التبرم بالعقائد والأديان والخروج عليها خروجا قاسيا شديدا وإقصائها إقصاء تاما عن كل نواحي الحياة الاجتماعية العملية.

فأسقطت الحياة الغربية من حسابها جلال الربانية، والتسامي بالنفس الإنسانية، والاعتقاد بالجزاء الأخروي. واضطربت بذلك بين يديها المقاييس الخلقية وانطلقت غرائز الشر من عقالها تحت ستار الحرية الشخصية أو الاجتماعية، ونجم عن ذلك أن تحطمت الفضائل في نفوس الأفراد، وتهدمت الروابط بين الأسر، وفسدت الصلات بين الأمم، وصارت القوة -لا العدالة- شريعة الحياة، واندلعت نيران هذه الحرب فتذوق حرها المحاربون والآمنون على السواء.

ويكتشف البنا بذور الحركات الاحتجاجية داخل الحضارة الغربية والتي بدأت في الغرس مع أوج ازدهار تلك الحضارة ذاتها وتنامت في عصرنا الحالي والتي تنتقد الآثار المادية للحضارة الغربية على الإنسان والمجتمع داخل المجتمعات الغربية ذاتها والتي ظهرت في الأزمات الاجتماعية والأخلاقية المتفاقمة وقد أدرك هذه الحقيقة أخيرًا ساسة الأمم الغربية أنفسهم فهبوا ينادون بوجوب العناية بالشئون الروحية ويتغنون بالمثل الخلقية العليا، ويهيبون بالحكومات أن تصبغ المدارس ومناهج التعليم والتربية بعد الحرب بهذه الصبغة، وأن تعود بالشعوب إلى الأديان والعقائد الموروثة. وفى الكتاب الأبيض الذى أصدرته الحكومة الإنجليزية عن التعليم بعد الحرب، وفى تقارير الأحزاب التى وضعت في ذلك، وفى مناقشة مجلس العموم واللوردات لهذا الكتاب من هذا الشيء الكثير.

هذه الفكرة التي أشار إليها البنا غاية في الأهمية العلمية والحضارية, فلا يمكن لدرس لفكر الغربي المعاصر دون درس هذه الحركات الاحتجاجية وتطورات وجودها في مجالات الاجتماع والسياسة والجريمة والفلسفة والأدب وما ارتبط بهذه المجالات من نظريات في التنمية والحداثة والعولمة، وهذا ما دفع بالدكتور المسيري (1938-2008م) إلى اعتبار محور الحركات الاحتجاجية في الغرب أحد العناصر المهمة في مشروع علمي بحثي نقدي للفكر الغربي ويحدد خمسة ميادين ظهر فيها بقوة ذلك الفكر الاحتجاجي الغربي هي: نظريات التنمية والحداثة والبيئة ومراجعة التاريخ الغربي, وعلم النفس واللغة. ودعا إلى ضرورة تبني مثل هذا المشروع حيث أن أي مشروع إسلامي ناهض ينبغي أن يبدأ من نقد المشروع لقائم ليقدم البديل لمشكلاته لتتجاوزه الإنسانية إلى ذلك المشروع الجديد.

ويؤصل البنا لحالة العقل العربي ملامح نموذجه المعرفي الحضاري والذي يتضمن التصورات الكاملة بين الغيب والشهود وبين المادة والروح وبين العقل والعلم, بلا صراع أو تناقض هذا الميراث لحضاري والاعتقادي يجب أن يستمسك به المسلم في أصول بنائه الثقافي والتربوي والاعتقادي ولا يتخلى عنه فيقع في الحيرة والضلال الفكري والثقافي، ونحن العرب قد ورثنا مفاخر هذه الحياة الروحية ومظاهرها، فأقطاب الرسالات العظمى وأنبياؤها المطهرون في أوطاننا نشأوا وعلى أرضنا درجوا، ورموز الديانات المقدسة لا زالت شامخة باذخة في ديارنا تهوى إليها قلوب المؤمنين بالكتب والرسل في أنحاء الأرض وهذا القرآن الكريم الذى ورثناه -نحن العرب- فخلد لغتنا، ورفع الله به ذكرنا، وخاطب به نبينا فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ "الزخرف: 44".

أما عن العلاقة بين المسلمين والغرب فيحدد ثلاثة شروط أساسية هي: التكافؤ والاستفادة في ضوء نموذجنا وأصولنا المعرفية والتعاون على الخير والتقوى وليس التبعية أو التقليد الأعمى أو جلب ما يضر لمجتمعنا وأمتنا أو الإنسانية ".. ولهذا نعتقد أن من واجب الأمة العربية أن تعمل على الاستمساك بقواعد حضارتها التى تقوم على ما ورثت من فضائل نفسية وأوضاع أدبية ودوافع روحية، على أن نقتبس من الحضارة الغربية كل ما هو نافع مفيد من العلوم والمعارف والصناعات والأساليب، وعلى أن ندعو أمم الغرب إلى الانتفاع بهذا الميراث الروحي الجليل، ونبصرها بما فيه من خير، ونذكرها بما تحتويه من نفع وضر، وبذلك تقوم الصلة بيننا وبينها على أساس من التعاون المشترك يتآزر فيه العقل والقلب على إنقاذ الإنسانية واستقرار الأمن والسلام".

ولقد أخذ البنا على الغرب التفرقة ما بين الدين والدولة وفي ذات الوقت رفض الدولة الدينية التي ظهرت في الغرب وسيطرة الكنيسة على كل شيء بالحق الإلهي ونفى أن يكون الإسلام وتعاليمه مثل التي حدث في الغرب في القرون الوسطى، غير أنه اكد أن الصلات بين الشعوب لا تنقطع أبدا في إطار التعاون واحترام إرادة الشعوب، فيقول: "نريد لأوطاننا وشعوبنا على أيديكم الوصول إلى هذه الأهداف والحصول على كامل الحرية والاستقلال، لا ننكر ولا نغفل أن بيننا وبين دول العالم وشعوبه صلات يجب أن تبقى، ومصالح يجب أن تنظم، حتى يقوم التعامل على أساس من الحب والتعاون والإنصاف وإن من واجب مؤتمركم الموقر أن ينظم ذلك كله بحيث لا تسوى مصالح الدول والشعوب على حساب العرب، كما لا يحال بين دولة وبين مصالحها الحقيقية التي لا تنتقص من استقلالنا، وألا تقف عقبة دون رقينا ونهوضنا.

ثم يؤكد البنا على العلاقة الودية مع الشعوب الغربية فيقول: والحق -أيها السادة- أن الأمر بيننا نحن المصريين وبين الأجانب -أو بعبارة أدق: وبين النزلاء من الغربيين- فإنني لا أود أن أستخدم كلمة الأجانب، إيثارًا للمعنى الإنساني الجامع الذى يجعل الإنسان أخًا لأخيه مهما نأت الديار أو شط المزار- كما يقولون. الحق -أيها السادة- أن الأمر بيننا وبين ضيوفنا من النزلاء الغربيين لا يتصل بالدين ولا بالجنس، ولكنه يتصل قبل كل شيء بالعيش وشئون الحياة بالخير والصحة والمال ومستوى المعيشة، فالقضية اجتماعية اقتصادية قبل كل شيء، وخلاصة رأى الإخوان ومشاعرهم فيها: أننا لا ننكر فائدة اتصالنا بالغرب فى تاريخنا الحديث ولا نكره الثقافة الأوربية والعلم العصري الأوروبي، بل نقدر كل التقدير هذه الثروة العلمية الهائلة التي ورثها الغرب لبنى الإنسان، ولسنا نمن على الغرب بما علمناه من قبل، كما أننا كذلك نعلم أننا لا نستغنى فى نهضتنا الحالية عن رءوس الأموال الأجنبية، وعن الخبرة الفنية الأجنبية، وعن التعاون مع غيرنا من الناس، ولسنا نذكر ما دفعنا من ثمن غال، وما قدمنا من تضحيات كل ذلك نعرفه ونؤمن به، ولكن على النزلاء الفضلاء كذلك أن يقدروا مدى التطور الاجتماعي والاقتصادي الذى طرأ علينا، والذى نتعرض الآن له، وأن يذكروا أن تعداد السكان فى مصر وحدها قد بلغ ثمانية عشر مليونًا بعد أن كان أربعة ملايين حين نزح معظمهم إليها منذ قرن واحد من الزمان، ونحن مع ذلك أمة خصبة ولود، يتكاثر عددها بدرجة تخيف، وأن يذكروا كذلك أن مطالب الحياة قد تعددت وكثرت إلى أضعاف ما كانت عليه حينذاك وأن ثمانية ملايين من سكان مصر يعيشون فى مستوى أقل من مستوى الحيوان ولا يجدون ما يعينهم على الضروريات فى الحياة فضلاً عن الكماليات.

وفي جواب عن سؤال طرحه مستر سبنسر المراسل الحربى الأمريكى حول مدى تعاون الدول والشعوب العربية مع الدول الغربية يجيب البنا بأن هذه الشعوب لا تستغنى عن الشعوب والدول الغربية لكن في إطار احترام الحقوق والتبادل الاقتصادي، فيقول: "أحب أن يفهم الغربيون أنه إذا أعطيت الحريات لدولة الشرق بواسطة الدول الغربية لا غيرها فسوف لا تستغنى هذه الدول عن الغرب فى تقوية كيانها، فمن الممكن بإرشاد الدول الغربية أن تتكون جيوش محلية وصناعات عسكرية تتمكن من صد تيار الثورة مؤقتا حتى يقوم الغربيون بإرسال المدد بمقتضى محالفات من الممكن عقدها، فإن الحياة العسكرية الحديثة لا تستدعى أبدا أن ترابط قوات أجنبية داخل البلاد، فى حين أن وسائل النقل الحديثة أصبحت تكفى لنقل الجيوش فى أسرع وقت ممكن، ولينص فى المحالفات على ذلك".

خاتمة

إن جماعة الإخوان المسلمين لم تنشأ في مصر من فراغ، ولم تكن تعبيرًا عن انقطاع في مسيرة الأمة الإسلامية، بقدر ما كانت تواصلاً، ولم تظهر أبدًا كرد فعل على سيادة التيار العلماني، كما يؤرخ كثير من العلمانيين عمدًا، وعن سوء قصد بدافع من التحيز الفكري، أو كما يكتب كثير من الإسلاميين خطأ، وعن حسن نية بدافع من إضفاء هالات أسطورية تخصم من رصيد حركة بحجم الإخوان المسلمين، ولا تضيف؟

لقد كان لنشأة جماعة الإخوان المسلمين أهداف على رأسها العمل على تحرير العالم الإسلامي من الاستعمار الغربي مع الحفاظ على العلاقات المتينة مع الشعوب الغربية والأخذ بسبل التقدم والعلم التي وصلت له الحضارة الغربية، والعمل على سلامة وأمن الشعوب الغربية.