من تراث المرشد العام للإخوان المسلمين د. محمد بديع

أصبح هناك اهتمام عامٌ على كل المستويات الرسمية والشعبية واعترافٌ- وإن كان متأخرًا- بأن أزمة الأزمات التي نعاني وتعاني منها البشرية هي التربية على القيم والفضائل.. إمَّا نقصًا أو انعدامًا على كل المستويات؛ لأنهم كما قالوا وبصدق يرَون أن بناء المصانع سهل وبناء المشروعات سهل، ولكن الصعب العسير هو بناء الإنسان.

والتربية عملية شاملة لكل جوانب الإنسان كل الإنسان في كل زمان وكل مكان؛ لذلك فهو مسئولية جميع الأجهزة والإدارات والوزارات والمجتمع والأُسر والأفراد، والتربية- لفظًا ومصطلحًا- يعني التعهُّد والمتابعة والتنشئة على نظام معين؛ لتحقيق هدفٍ معين، فإذا كان هدفنا حقيقيًّا وصحيحًا فماذا فعلنا لتحقيقه؟ لأننا جميعًا نرى أن الهدف شيء والوسائل المستخدمة لا تحققه بأي حال من الأحوال، وأرجو المعذرة إذا غلبت عليَّ مهنتي في ضرب المثل التالي:
في تربية دجاج التسمين ودجاج البيض.. لكل منهما أسلوب تربية ونظام رعاية من اختيار الكتكوت بمواصفات خاصة وتغذية خاصة لكل نوع، وبرامج تحصين، وعلاج وبرامج تهوية وتدفئة، وفحص ومتابعة.. كل هذا من أجل قطعة لحم دجاج أو بيضة (أي اختلاف هدف التربية)، والعجيب أن المربين لكل صنف يحترمون هذه القواعد ولا يخالفونها، ويلتزمون بها؛ حرصًا على المنتج وطمعًا في الربح.

والأعجب أن من يربي دجاجًا لكي يحصل على بيض لا يستعجل الثمرةَ ولا يتململ من الانتظار لمدة ستة أشهر على الأقل؛ حتى تبدأ بشائر البيض تترى، أما دجاج التسمين فبعد شهر ونصف فقط؛ لأن هناك فرقًا بين الهدفين وبالتالي بين التربيتين، وأعتقد أن هذا الفهم- والخِطط المنبثقة عنه- يجب أن تكون مسئولية جميع الوزارات؛ لأن أي خلل في حلقة من هذه الحلقات سيُنتج انحرافًا ما يعاني منه الجميع؛ فهي سفينة واحدة يعمل فيها الجميع ويتنفع بها الجميع.

ولقد تنبَّهت جماعة (الإخوان المسلمون)- بفضل الله وتوفيقِه لمؤسسها ومرشدها الأول الأستاذ "حسن البنا" رحمه الله- إلى أهمية هذا الأمر وخطورته من البداية، فجعل التربية هي محور نشاطات الجماعة ومؤسساتها، وهي مسئولية الجميع عن الجميع، ليس فقط عن أبناء جماعته، ولكن عن أبناء وطنه جميعًا وأمته "فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" بل أوسع من هذا وأشمل "خير الناس أنفعهم للناس"؛ ليكون الناتج النهائي إنسانًا سليم العقيدة، صحيح العبادة، قويَّ البدن، متين الخلق، مثقف الفكر، منظَّمًا في شئونه، قادرًا على الكسب، نافعًا لغيره، ابتداءً من أسرته حتى أمته، وبالجملة صالحًا في نفسه مصلحًا لغيره.

التوجهات التربوية:

التوجه هو اختيار بين بدائل يحقق الهدف المرجو، ورب العزة يقول: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 148)، ويقسم العباد جمعيًا إلى فريقين في نهاية مطاف السعي البشري ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ (الليل: 4-10).

ولقد اعترف الجميع أن الإصلاح التربوي هو الأساس في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي.. إلخ؛ فإن فساد الخامة البشرية يجعل جميع الخطط- حتى الرياضية- تفشل ولا تحقق أي نتائج ولا حتى في الدوري العام، والتوجه العام الذي يجب أن يتبناه الجميع- حكومةً وشعبًا وأحزابًا حكومية ومعارضة وبين جميع مؤسسات المجتمع المدني- هو مستوى الفضائل في السلوك والأخلاق والقيم، ومحاربة كل صور الفساد.

وهذا التوجة يقتضي أن نتعاون مع كل الاتجاهات فيما اتفقنا عليه، ويعذربعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، ونبدأ في وضع الخطوات العملية؛ للتقارب والتعاون في الخير كما أمر الله عز وجل.. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 2) والوقوف في الفساد ﴿وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: من الآية 2).

وقد قالوا قديمًا إذا وجد الإنسان الصالح وُجدت معه كل أسباب النجاح، ولا نحتجُّ بأنه ليس في إمكاننا شيءٌ، فهذا يأس لا يعرفه المصلحون، وقد صدق المثل الإنجليزي:when there is a will, there is a way
ولقد بشرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يُصلح بصلاح الرجل المسلم ولدَه وولد ولده وأهل كويرته ودويرات حوله".. كل هذه البركة في أثر العمل الصالح من فضل الله على الصالحين، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، وهو سبيل النجاة إذا عمَّ البلاء والغضب الإلهي على المفسدين، واسمعوا جيدًا ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ (الحاقة: 12،11).

ولتحقيق ذلك يجب أن نضع نصب أعيننا، ونحن نربي أبناءنا وأبناء مجتمعنا في مستويات التربية المختلفة:

1- أن  نربيهم على الشعور بالعبودية لله ومراقبته لإيجاد الضمير الحي الذي لا يحتاج إلى رقابة خارجية تذكر، كما يحدث الآن من إرهاق لدوائر المراقبة المختلفة وكثرة التحايل عليها.

2- حسن التلقِّي لأوامر الله- عز وجل- ورسوله- صلى الله عليه وسلم- وجميع أنبيائه  ومرسليه بالوحي الإلهي، الذي يُصلح البشرية وتصلح به.

3- تحويل آثار العبادات إلى سلوك يحمل الخير لكل الناس؛ حيث قال رب العزة- في حديثه القدسي-: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها، على خلقي، ورحم الضعيف والأرملة والمسكين.."، و"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، والمرأة الصوامة القوامة التي تؤذي جبراتها بلسانها قال عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "هي في النار".

4- توحيد جهود المصلحين؛ حتى لا تتبعثر، وإيجاد شعور عام لرفض الفساد ورفض الرضا به، ولو الإنكار بالقلب، وهو أضعف الإيمان.

5- شحذ همة المجتمع للوقوف في وجه الهجمة الصهيونية الشرسة، التي تستهدف اجتياح الأمة العربية والإسلامية- بل والعالم أجمع- على مراحل تؤكل في كل مرحلة منها بلدٌ إسلامي؛ لأنها تبغي السيطرة على كل الثروات وطمس كل الهويات والقضاء على كل الثقافات؛ حتى تبقى الساحة خاليةً لنشر فسادهم وضلالهم وخططهم في تحطيم القيم بلا مقاومة تُعطلهم أو تُتعبهم، ونحذر الجميع من ذلك؛ لأن عندها سيحطم الطوفان الجميع حكامًا ومحكومين، والنظم والشعوب، ودول الجوار ودول الحوار، ودول الطوق والدول الخارجة عن الطوق.

6- اليقين في وعد الله ووعيده.. ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق: من الآية3)، وإن علينا القيام بالواجب والأخذ بالأسباب، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإلا.. "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو لسيلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يُستجاب لهم" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونذكر كل مسئول على كل المستويات أن الله سائله عما استرعاه حفظ أم ضيَّع، ونقول للجميع: اللهم فاشهد ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: 44).