بقلم د. رشاد لاشين

الأب بالنسبة للأسرة: عصبُ الحياة، ودينامو الحركة، وحامي طريق النجاح، ومفجِّر طاقات الإبداع، ومصدر الرعاية والحماية، وقائد المسيرة تربويًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وغيابه بلا شك يخلف فراغًا في كل هذه الميادين، والابن الذي يغيب أبوه لسببٍ من الأسباب سواء بالسجن أو الأسْر أو الموت قد يُصاب بالقلق على رزقه ومستقبله وتدبير أموره..

لذا فنحن نُهدي هذه الكلمات: للأيتام ولأبناء الأسرى والمعتقلين والسجناء، بل ولكل أبناء الصالحين الذين يهددهم الظالمون بالسجن في عصور الاستبداد التي تسجن وتهدد بالسجون كلَّ من لا يسير في ركابها، وقديمًا خاطب الفرعون الظالم رأس السلطة في مصر سيدنا موسى عليه السلام: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (الشعراء: 29)

نقول لكل ابن عزيز من هؤلاء:

لا تقلق يا حبيبي، فالأب نعمة من الله تعالى، ولكنَّ غيابه ليس معناه ضياع المستقبل أو نهاية الحياة؛ فالراعي الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، والتاريخ يشهد بوجود أطفال عظماء كثيرين غاب عنهم الأب، ولكن لم يغب عنهم كنف الله تعالى وحمايته ورعايته، أمثال:

1- سيدنا إسماعيل عليه السلام: (غاب عنه أبوه 15 سنة)، وكلنا يعلم أنَّ سيدنا إبراهيم ظل يتوق للولد ويدعو ربه ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ (الصافات: 100)، ولم يرزق الولد إلا عندما بلغ من العمر 86 عامًا، وعندها أتاه أمر الله تعالى أن يذهب بزوجته (أمنا هاجر) وابنه (سيدنا إسماعيل) ليس إلى السجن، بل إلى مكانٍ أفظع منه؛ فالسجن به وسائل إعاشة، أُمر أن يذهب بهم إلى صحراء جرداء، لا بشر فيها ولا زرع ولا ماء، ولا مصدر من مصادر الحياة.

واجتهد سيدنا إبراهيم أن يأخذ بالأسباب: فأخذ لهم سقاءً به ماء، ووكاءً به تمر، وبعد فترة نفذ ذلك الزاد، وعطشت الأم وجفَّ لبنها، وتشحط الطفل الرضيع حديث الولادة وأشرف على الموت، وذهبت الأم تبحث في الصحراء، وتجري بين جبلي الصفا والمروة سبعة أشواط؛ ترمز إلى رعاية الطفولة، فلم تجد شيئًا، ثم عادت لتجد الخير يتفجر من تحت قدمي الرضيع، ليس خيرًا يكفيها وابنها فقط، بل خيرًا يغمر البشرية كلها إلى يوم القيامة.

وظلت تربيه وحدها حتى بلغ عمره 15 عامًا حينما عاد سيدنا إبراهيم من رحلة الدعوة إلى الله عز وجل ليؤمر بذبحه، فيمتثل سيدنا إسماعيل، وتمتثل الأم العظيمة التي ربت ابنها وحدها وتعبت عليه طوال السنين، ويأتي بعد ذلك الفداء بذبحٍ عظيم؛ ليبين لنا قيمة الأسرة العظيمة التي هي عنوان للرضا والتسليم بأمر الله تعالى.

2- سيدنا يوسف عليه السلام: (غاب عنه أبوه 40 سنة) ألقى به إخوته في البئر، ثم خرج ليتربى في قصرٍ من خير قصور الدنيا، ثم دخل السجن ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف: 42)، ثم خرج بعده قائدًا لمصر والمنطقة كلها، ثم يلقى أباه بعد 40 سنة من الغياب معززًا مكرمًا بفضل رعاية الله تعالى لأبناء الصالحين، وهو يذكر نعمة الله تعالى ونعمة الإفراج عليه من السجن: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 100).

3- سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-: (عاش طوال حياته بدون الأب)، الذي مات وهو جنين في بطن أمه، فكان أعظم العظماء، وأكرم خلق الله، وقائد البشرية كلها نحو الخير والهدى والصلاح حتى تقوم الساعة، وذلك بفضل رعاية الله تعالى عنايته رغم أنه لم ينعم برعاية الأب قط.

4- أبناء فلسطين: (مِن الآباء الأسرى مَن هو محكومٌ عليه بالسجن مدى الحياة- ليس فقط- بل مضافًا إليها فترات إضافية بلغت الـ100عام، وهذا من قمة فجور اليهود في أحكامهم) لا تنس يا حبيبي أنَّ الكثيرين من أبناء فلسطين يعيشون بغير آبائهم، الذين غاب كثير منهم إما بالسجن، أو الأسْر في سجون الاحتلال، أو بالقتل ونيل شرف الشهادة في سبيل الله، فلم يضيعهم الله تعالى؛ بل حفظهم ورعاهم وساروا في طريق الجهاد عظماء، يقدمون لنا صورًا رائعة من الفداء والتضحية في سبيل الله عز وجل.

5- أبناء الإخوان الذين دخلوا السجون قديمًا وحديثًا: (غاب الآباء فترات متفاوتة بلغت العشرين عامًا) وكان الأبناء في كنف الله تعالى ورعايته، ولم يضيعهم الله تعالى، بل إنَّ من بين بنات الإخوان من حقق المركز الأول في المرحلة الثانوية على مستوى الجمهورية والأب في السجن طوال العام.

الله تعالى لا يضيع أبناء الصالحين

﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: 82).

اذهب فلن يضيعنا الله

هيا يا حبيبي نستعصم بالله تعالى، ونرفع شعارًا نقوله للأب: "اذهب فلن يضيعنا الله"، تلك العبارة الجميلة الرائعة التي قالتها أمنا هاجر عليها السلام لأبينا إبراهيم؛ عندما تركها هي وابنها الرضيع في وسط الصحراء التي تحمل خطر الوحوش، ولا يوجد بها أدنى مظاهر الحياة، ولكن هذا حال الأم العظيمة المتعلقة بالله تعالى مالك الملك مدبر الأمر.

اذهب يا أبي في سبيل الله ونحن نبقى في رعاية الله الذي لا يضيع الصالحين.. اذهب يا أبي فنحن نمتثل قول الله تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ (الأعراف: 196).