كان أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- يصوم حتى يعود كالخلال، وهو العود الذي تُخلل به الأسنان، فقيل له: "لو أجممت نفسك؟! أي: أرحتها، فقال: "هيهات هيهات، إنما يسبق من الخيل المضمرة".

الخيل السابقة هي الخيل ذات البطون الضامرة، أما التي ترهَّلت بطونُها وانتفخت فما عاد لها في ميدان السبق مكان.

وقد أدرك سلفنا الصالح- رضي الله عنهم- أن السابق غدًا- يوم يُنصَب الصراط- هو الذي خفت في الدنيا مؤنته، وانقطعت بها علائقه، وزادت في دروب الآخرة هِمته، وتعب في ميدان العبادة جسمُه، فأسهر ليله وصام نهاره.. يتنقل في ميدانها من طاعة إلى أخرى، ومن مرتبة إلى أعلى، لا ينقضي له في دروب الخيرات نهم، ولا تسد فيها حاجته.. يصدق في أحدهم ما قاله الأول في عرابة الأوسي- رحمه الله- جزاء همته العالية، ونفسه التواقة:

رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد     تلقاها (عرابة) باليمين

ويبقى السائر إلى الله يتنقل بين الخيرات، ويكثر من الطاعات، ويُتعب في ذلك نفسه، فإذا قيل له: لو أرحت نفسك؟! أجاب الربيع بن خيثم- رحمه الله- عن جموع السائرين بقوله: "راحتها أريـد".

فقد أدرك حقيقة المطلوب، وعظمة الثمن، فلم يبخس الأشياء حقها، فسلعة الله غالية، لا تُطلب بالراحة ولا بالغفلة، ولا بتضييع الأوقات، ولا بالانشغال بالسفاسف من الأمور، يبذل ويبذل ثم يرى بعد ذلك تقصيره واضحًا جليًا، فيرغب بالمزيد، ويصرُّ عليه، فلا يستسلم للائم، ولا يسمع لمثبط، بل يشنع على الذين يتبعون نفوسهم الأماني، ويستسلمون للأوهام والأحلام، ثم يطمعون بأعالي الجنان، فيقول:

أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام    فـدع السهو وبادر مثل فعل المستهام

وسح الدمع على ما أسلفته                       وابْك ولا تلوِ على عذل الملام

 في جنان الخلد والفردوس في دار السلام     وعروسًا فاقت الشمس مع بدر التمام

أحسن الأتراب قدًّا في اعتدال وقوام     مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام

لكن يا هذا متى الراحة؟! وقد سئل الإمام أحمد- رحمه الله-: متى يجد العبد طعم الراحة؟

قال: عند أول قدم في الجنة.

أحزان قلبي لا تزول          حتى أُبشَّر بالقبول

وأرى كتابي باليمين          وتُسَر عيني بالرسول

هؤلاء هم أجدادك الذين ورثت عنهم المسير إلى الله، هكذا ساروا، وبهذه الهمة أدوا المهمة، وأنت تدَّعي السير على آثارهم، وتسلك الطريق الذي سلكوا، فهل تُخلص في التشبه بهم، وتصدق بالاقتداء؟!

ويكفي التغني بهم عن بعد، فإن صدقت فبادر، وإن عزمت فصابر، وإن مضيت فثابر، وصدق الشاعر:

 إذا أعجبتك خصال امرئ       فكنه يكن منه ما يعجبك

فليس لدى المجد والمكرمات      إذا جئتها حاجبٌ يحجبك