صفحة من تاريخ الجماعة الصامدة

حين يأتي اعتراف من الخصم- الذي حكم على الإخوان بالإعدام والسجن والتشريد- بأن حكمه على أحدهم كان ظالمًا، ولا يستند لقانون أو تشريع، وإنما ينطلق من حسابات سياسية، هنا لابد للتاريخ والمؤرخين من وقفة.

فإنَّ لهذا الاعتراف قيمة تاريخية ووثائقية لا تنكر، ولا يُماري فيها أحد من المدافعين عن الظلم والظالمين بالباطل، والوالغين في أعراض الدعاة بالكذب والبهتان.

وينسحب هذا الاعتراف منطقيًا على بقية الدعاة الذين عُلِّقوا على أعواد المشانق أو غُيِّبوا بين جدران السجون، ولم تكن هناك جريمة ارتكبوها يُعاقب عليها قانون أو تشريع، وإنما هي كما قال كبيرهم "أسباب سياسية" كان غرضها استئصال الدعوة والدعاة.

ونورد هنا نموذجين من الاعترافات

أولاً: اعتراف جمال عبد الناصر نفسه ببراءة شهيد الإخوان: عبد القادر عودة الذي أُعدم عام 1954م.

ثانيًا: اعتراف شمس بدران ببراءة الشهيد محمد يوسف هواش الذي أُعدم عام 1966م.

1- الشهيد عبد القادر عودة

تحدث الزعيم الوطني أحمد حسين في مذكراته التي نشرها بجريدة الشعب المصرية عام 1982م عن الشهيد عبد القادر عودة أحد قادة الإخوان المسلمين، والذي أُعدم ظلمًا وعدوانًا لتصفية حسابات سياسية بين جمال عبد الناصر والإخوان وشخصية بينه وبين شهيدنا المتهم البريء والقتيل المظلوم، كل ذلك باعتراف جمال عبد الناصر نفسه، وها هو نص المذكرات كما كتبها أحمد حسين:

"نحن الآن في عام 1954م أفرج عني وتنازلت عن القضية، ولكنني ظللت مجروحًا؛ فلم يحدث في كل تاريخي النضالي أن أهنت واعتدي علي كما اعتدي علي في ظل الثورة.

ووقعت الواقعة: أطلق الرصاص في ميدان المنشية على جمال عبد الناصر، وكان الضارب يُدعى محمود عبد اللطيف من الإخوان المسلمين، وعلى الرغم من أن عبد الناصر نجا فقد ظنَّ أنه أصيب في مقتل، وراح يثرثر بكلام فارغ يكشف عما في عقله الباطن، فراح يُخاطب الشعب بقوله: غرستُ فيكم العزة والكرامة.

واستغل هذا الحادث للبطش بالإخوان المسلمين، وتألفت محكمة خاصة لمحاكمتهم، وقضت على زعمائهم بعقوبات قاسية، وعلى الرغم من أن واحدًا منهم وهو عبد القادر عودة كان مسجونًا قبل وقوع الحادث فلم ينجُ من عقوبة الإعدام.

وفزعتُ من هول المحاكمة، ومن فظاعة أحكامها، وأدركتُ أننا أصبحنا نعيش في ظل عهد جديد؛ حيث لا قانون ولا حدود، وإنما إرادة الحاكم ومطلق مشيئته.

فقررتُ أن أهاجر من مصر، وإذا كان الوقت هو موسم العمرة، فقد قررت أن أسافر إلى السعودية طلبًا للعمرة، ومن السعودية أختار البلد الذي أتوجه إليه، وإمعانًا في التمويه والتعمية طلبت مقابلة عبد الناصر لأستأذنه في السفر، وبالرغم من أنني كنت مقررًا أن لا أتحدث في غير التحيات والسلامات والمجاملات العادية، فقد كان هو الذي دفعني للكلام، حيث لم أتمالك نفسي عن نقده.

سألني: وما رأيك فى الإخوان المسلمين؟

قلتُ: إنك تعرف رأيي- أقصد الموقف الأخير- ووجدتني أندفع بلا وعي أندد بإعدام عبد القادر عودة.. لقد كان باستطاعتك أن توفر 50% من النقد الذي وجه إليك لو وفرت حياة إنسان واحد.

وأسرع يقول: تقصد عبد القادر عودة؟

قلتُ: نعم. فإن عبد القادر عودة بريء من الحادث الذي وقع عليك، كما أنه بريء من أعمال العنف.

ومضيتُ أترافع في حماسة: هناك ثلاثة أدلة يكفي كل واحد منها لتبرئة عبد القادر عودة، وقد ثبتت كلها أمام المحكمة:

الأول: أنه كان سجينًا قبل وقوع الحادث بعدة أسابيع.

الثاني: أنه اقترح من بعض الأعضاء القيام بمظاهرة مسلحة، فأنكر عبد القادر عودة هذا الاقتراح بشدة.

الثالث: أن البعض اقترح القيام بمظاهرة سلمية فرفض عودة القيام بأية مظاهرة.

وأصغى جمال عبد الناصر لمرافعتي ثم قال:

"والله يا أحمد نحن لم ننظر للأمر من الناحية القانونية؛ بل نظرنا إليه من الناحية السياسية"!!

غادرتُ مصر إلى السعودية وأنا لا أكاد أصدق أنني هربت من الجحيم الذي أصبح الأبرياء فيه يعدمون لأسباب سياسية".

* جريدة الشعب- سنة 4 عدد 143 – 7/9/1982م.

------------

2- الشهيد محمد يوسف هواش

وبعد عشرة أعوام يتكرر الموقف مع شهيد آخر: هو الشهيد محمد يوسف هواش، ويأتي الاعتراف من أحد كبار الجلادين، العقيد: شمس بدران- مدير مكتب المشير عامر، ووزير الحربية أيام النكسة- يقول في حديث له مع مجلة الحوادث اللبنانية بعد هروبه من مصر بجواز سفر دبلوماسي:

"اتفقت مع الرئيس عبد الناصر أنه بعد صدور الأحكام في القضية يخفف أحكام الإعدام، ثم سافرت إلى لندن للعلاج، وهناك علمت أنه تمَّ تنفيذ الإعدام في ثلاثة، ولما عدتُ سألتُ، فعلمتُ أن الرئيس صدَّق على هؤلاء الثلاثة لأنه سبق الحكم عليهم في 1954م.

(وقد تألمتُ جدًا لإعدام هواش؛ لأنه من واقع التحقيقات لم يشترك في أي اجتماع للقيادة وأقصى ما يمكن أن يُتهم به هو أنه "علم ولم يبلغ").

وقلت للمشير: "لا بد أن أكلم الرئيس في موضوع هواش؛ لأنه لا يستحق الإعدام".

قال لي المشير: "بلاش لحسن الرئيس ضميره يتعبه".

* مذابح الإخوان في سجون ناصر – جابر رزق – 125.