بقلم: د. حلمي محمد القاعود

في التشريع الإسلامي تفصيل مستفيض وممتد حول هيئة الاختيار، وموافقة الإرادة العامة وولاية العهد، والشروط التي يجب أن تتوافر، وعدم توريث الإمامة، ورضا الأمة بالعهد، والتعدد والوحدة في الإمامة، ووحدة الأمة الإسلامية، ومسائل أخرى عديدة.

في كتاب «النظريات السياسية الإسلامية» للدكتور محمد ضياء الدين الريس أيضاً قضايا تفصيلية تتعلق بالدولة والولايات، والوزارة والإمارة على البلاد، أو ما يمكن تسميته بـ»عقود أخرى»، تندرج تحت «العقد» الأساسي والأكبر؛ وهو الإمامة، ووزارة التنفيذ ووزارة التفويض، وإمارة الاستكفاء، وإمارة الاستيلاء، وآراء المذاهب المختلفة، والفرائض العامة «التضامنية» مثل: الإمامة، القضاء والنظر في المظالم، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القيام بعلوم الدين والدنيا، توفير وسائل العمران، التكافل الاجتماعي، واجبات الإمام أو الدولة، عمومية النظام الإسلامي، ومنها أيضا قواعد النظام الإسلامي:

1- العدل (يشمل: المساواة أمام القانون، العمران، العدل للأقليات الدينية).

2- الشورى.

3- مسؤولية الحاكم.

لقد توقف د. الريس عند أخطاء المستشرقين لتصويبها بالدليل والبرهان، مثل قول «مرجيليوث» حول الرعايا المسلمين بأنهم ليست لهم أي حقوق لدى رئيس الجماعة القائم (يقصد الإمام)، وادّعاء «ماكدونالد» أن الإمام لا يمكن أن يكون حاكماً دستورياً بالمعنى المعروف الآن، وقول «أرنولد»: إن الخلافة المعترف بها نوع من الحكومة المستبدة الجائرة..

وهي أخطاء جسيمة وقع فيها المستشرقون؛ لأنهم قصروا نظرهم على حالة الضرورة وما صرح به الفقهاء بشأنها.

وفي المبحث الأخير من كتاب د. الريس تفصيل عن طبيعة الدولة والسيادة، ومناقشة لأقوال المستشرقين في ضوء ما وصل إليه علماء الإسلام، والعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وخصائص دولة الإسلام، والنظام الإسلامي، وهي قضايا مهمة للغاية تضيق المساحة عن عرضها.

فتح جديد

ويحسن أن نقدم في الختام آراء بعض الأعلام والعلماء والكتَّاب من أعلام الأمة الذين تحدثوا عن كتاب د. الريس وأشادوا به، ورأوا فيه فتحاً جديداً يكشف عن جوهر الإسلام في علاقته بالحياة والأحياء.

يقول علي ماهر، رئيس وزراء مصر الأسبق، في رسالة إلى المؤلف: «أنوه بما طالعته في كتابكم من أسلوب علمي ممتاز، وتعمق في البحث، وجهد مشكور في التمحيص والدرس، كتب الله لكم ولزملائكم الجامعيين اطراد التوفيق في خدمة العلم والحقيقة».

ويقول محمد زكي عبدالقادر، أحد رؤساء تحرير «الأخبار»: «قرأت في هذا الكتاب كثيراً مما صحح معلوماتي، وأضاء أمامي بعض الغموض الذي يحيط بنشأة الفرق والأحزاب الإسلامية، وقد نهج فيه المؤلف نهجاً علمياً، ومزج الفقه الإسلامي بالنظريات الحديثة مزجاً موفقاً.

وأهم ما استرعى انتباهي في هذا الكتاب أنه عرض النظريات الإسلامية وأقوال الفقهاء، في الحكم وسياسة الدولة، وعلى صورة بسطت ووضحت أمامي الكثير من النظريات الحديثة، وإنه لشيء لافت للنظر أن يتمكن فقهاء المسلمين -بالظروف التي كانوا يعيشون فيها، ومعتمدين على ما ورد في السُّنة والأحاديث النبوية وهو قليل نسبياً، ومستهدين بالمبادئ الأساسية في الإسلام- أن يتمكنوا من دراسة هذه الذخيرة الوافرة من الأحكام والتوجيهات التي يمكن أن تعتمد عليها أي دولة حديثة، وتحقق حكماً يقر إرادة الشعب، ويرعى مصالحه».

وقال الشيخ محمد أبو زهرة: «اتجه مؤلف النظريات السياسية الإسلامية إلى فلسفة السياسة الإسلامية والمناحي التي نحت نحوها الطوائف الإسلامية والمذاهب المختلفة، مبيناً ما تجتمع فيه من أصول وما تفترق فيه من فروع».

وكتب محمد الخير عبدالقادر، أحد رجال التاريخ بالسودان الشقيق: «.. وهذا الكتاب (النظريات السياسية الإسلامية) من أجدر الكتب الحديثة بالاحتفاء والتقدير، لا لأنه يعالج جانباً مهماً من جوانب الفكر والتاريخ الإسلامي فحسب، وإنما لأنه ظهر في وقت كاد المسلمون فيه يستسلمون للدعاية التي تريد أن تفصل بين الدين والدولة في العالم، متأثرين في ذلك بما يكتبه أعداء الإسلام».

أما د. عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) فقد كتبت ما نصه: «والحق أني لا أعرف فيما قرأت حديثاً من المؤلفات للمشتغلين بهذه المادة بحثاً كهذا؛ امتزج فيه النظر الفلسفي بالتحقيق التاريخي، وإذا كانت الدراسة الجامعية تقاس بسلامة منهجها ومدى جدواها على العلم وإفادتها إياه فائدة محققة، فإن كتاب «النظريات السياسية الإسلامية» جدير بأن يأخذ مكانه بين هذه الدراسات دون أن يجحد ناقد منصف ما فيه من نضوج وأصالة..».

الإسلام والخلافة في العصر الحديث

يلاحظ أن د. الريس حين أصدر كتابه الآخر «الإسلام والخلافة في العصر الحديث» بعد ما يقرب من ربع قرن من كتابه «النظريات السياسية الإسلامية»، فإنه شكك بأدلة قوية أن يكون كتاب «الإسلام وأصول الحكم» من تأليف الشيخ علي عبدالرازق، ومن هذه الأدلة:

أنه لم يعرف عن الشيخ قط أنه كان باحثاً، أو مفكراً سياسياً، أو حتى مشتغلاً بالسياسة.

ولا يعقل أن يقوم قاض شرعي مسلم من عائلة محافظة بمثل هذا الهجوم على الإسلام، الذي ينكر ما فيه من سياسة وحكم، وجهاد وقضاء.

ولا يعقل أن يكون هذا الشيخ الأزهري قد تعلم في الأزهر ما يورده في كتابه من أحاديث عن «قيصر» و»عيسى» و»متى» و»الإصحاح» و»الإنجيل».

أو يتكلم الكتاب عن المسلمين بضمير الغائب، مثل قوله: ذلك الزعم بين المسلمين.. غير مألوف في لغة المسلمين.. الخلافة في لسان المسلمين.. إلخ.

في شهادة الشيخ محمد بخيت، مفتي الديار المصرية، بأحد كتبه: «.. علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له فيه، إلا وضع اسمه عليه فقط، فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه -من غير المسلمين- ضحية هذا العار».

كما أن د. الريس قدَّم كتابه «النظريات السياسية الإسلامية» إلى علي عبدالرازق وطلب منه الرد على ما جاء فيه من تفنيد لكتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فلم يستجب.

وقد رفض علي عبدالرازق أن يعيد طبع كتابه بعد أن ألحت عليه «دار الهلال» في ذلك.

ويخلص د. الريس -يرحمه الله- إلى ترجيح أن يكون المؤلف الأصلي لهذا الكتاب أحد المستشرقين الإنجليز.

هجوم ودفاع

تعرض كتاب علي عبدالرازق لنقد لاذع وتفنيد علمي من جانب عدد كبير من العلماء، منهم الإمام الأكبر محمد الخضر حسين في كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» الذي صدر عام 1926م، ومفتي الديار المصرية محمد بخيت المطيعي في كتابه «حقيقة الإسلام وأصول الحكم» الذي صدر في عام 1926م أيضاً، وعبدالرزاق السنهوري في كتابه «أصول الحكم في الإسلام»، بالإضافة إلى كتاب «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم» للشيخ محمد الطاهر بن عاشور؛ وهو ما أدى إلى فصل علي عبدالرازق من هيئة كبار العلماء.

وقد وقف ضد قرار الفصل عدد من الأدباء والكتَّاب، منهم د. محمد حسين هيكل في جريدة «السياسة»، كما استقال عبدالعزيز فهمي من وزارة الحقانية بوزارة زيور باشا في 13 مارس 1925م، ودافع عباس محمود العقاد عن عبدالرازق في مقال بصحيفة «البلاغ»، وكتب سلامة موسى مقالاً في جريدة «المقتطف» دافع فيه عما سماه حرية الفكر والإبداع ورفض ما يعده رقابة فكرية!

وفي السنوات الأخيرة، يبذل غلاة العلمانيين وأنصار الغرب بمصر والبلاد العربية جهوداً كبيرة في الإلحاح على ذكر الكتاب عبر مقالاتهم وكتبهم، والترويج للأفكار المنسوبة إلى علي عبدالرازق، خاصة فكرة فصل الدين عن الدولة، وتحويل الإسلام إلى دين قاصر على الصلوات والعبادة فقط، ولا شأن له بالحياة أو الواقع، واعتماد العلمانية -في أشد صورها قبحاً وبشاعة- منهجاً ودستوراً في بلاد المسلمين، وتجاهلوا في ظل أنظمة الاستبداد والتخلف أنهم يستعيدون نسخة متهرئة من تجربة مصطفى كمال أتاتورك في تركيا التي أثبتت فشلها في مجالات الحياة كافة طوال ثمانين عاماً، بعدها استعاد الشعب التركي هويته الإسلامية مرة أخرى.