ما أشبه الليلة بالبارحة

بينما يتغنى بعض المنافقين بجرائم الانقلابيين وانتهاكاتهم المتوحشة بحق أبناء الوطن وحرائره الشريفات.. تُخرس الألسنة ويُزج بمن يفتح فمه جهرًا بالحق ورفضًا للظلم..

وفي عهد الديكتاتور الأب جمال عبدالناصر لقيت المحاكم العسكرية الاستثنائية- التي ابتُليت بها مصرُ منذ قيام حركة 23 يوليو، وعانى منها شعبها الأمرَّين من الشعراء الأحرار في مصر والعالم العربي، وأغلبهم من شعراء الاتجاه الإسلامي- استنكارًا شديدًا ونقمةً عارمةً.

ويقابل ذلك ما رأيناه من صمت مريب، وسكوت رهيب عند أكثر شعرائنا الكبار الذين لزم أغلبهم الصمت والتقية، بل وقع بعضهم في منحدر الإشادة والتأييد لتلك المحاكم الظالمة، فكانوا عونًا للطغاة، مشجِّعين لهم على استمراء الظلم والتمادي في الطغيان.

ويأتي شاعرنا المتميز هاشم الرفاعي على رأس من استنكروا تلك المحاكم العسكرية الشاذة، بل هو أول من تعرَّض لهذه المحاكمات في شعره.. ففي قصيدة له بعنوان (جلاد الكنانة) كتبها في مارس 1955م- أي بعد تنفيذ أحكام المحكمة بثلاثة أشهر- يستنكر هاشم الرفاعي تلك السلسلة من المحاكم العسكرية الاستثنائية، التي تُعقد للانتقام من أبناء هذا الشعب على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم.

فمن المجالس العسكرية إلى محكمة الثورة إلى محكمة الغدر، ثم أخيرًا محكمة الشعب، ويسخر من اسم "محكمة الشعب" هذه التي سُميت باسمه، وخُصصت لإذلال أبنائه، ويعرض لأول وصمة في جبين تلك المحاكم، وهي أن القضاةَ فيها هم أنفسهم الخصوم المجني عليهم "ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة، ليس بينهم أحد قد درس القانون من قبل"، فكيف تكون هناك عدالة حقة:

ما بين محكمة تقـام وأخـتها               مُني الضمير بغفوة النعسان

الشعب يلعنها وتقرن باسـمه                أرأيت كيف تبجح البهتان؟

فيها القضاة هم الخصوم وإنها               لعـدالةٌ مخـتلة المـيزان

هاشم الرفاعي- ديوان هاشم الرفاعي- قصيدة (جلاد الكنانة)

وفي عاطفة مشبوبة تأثرت بتلك المهازل المقامة، وبأحكامها الهوجاء التي سفكت دم ستة من أطهر رجال مصر والعرب والمسلمين، يتحدث شاعرنا الفلسطيني "عدنان النحوي" تحت عنوان "دماء بريئة" عن هذه المحكمة التي سماها بحق "محاكم التفتيش"، وقد راعه ما فيها من تقييد الأبرار المجاهدين، وتطاول الحَمقى من المدعين والجالسين على كراسي القضاة:

ومحـاكم التفتيش مـد رواقها              كف يسـيل على جوانبها الدم؟!

ومهازل فيها تُحاك، فأحمـق               يهذي، وحـر قيدوه وكمَّموا

ودعـوةٌ بين بنادق مصـفوفة              وقنا محـدودة وقيل تكلموا

وأخو القضاء أخو هوى وضغينة            وجهـالة تبدو عليه وترسم

ودعـوا إلى حـرية وكـأنها               زند يكبله الحـديد ومعصم

يا شعب باسـمك كم تباح مظالم            والشعب لا يدري ولا هو يحكم

عدنان النحوي- ديوان الأرض المباركة- قصيدة (دماء بريئة)

ثم نصل إلى شاعر ممن اصطلوا بنار المحنة، وقاسوا أهوالها، فكان شاهد عيان، ينطق حقًّا ويصف صدقًا هذا الفصل من المأساة.. فصل المحاكمة، يصفها ويناقش مهازلها:

قالـوا محـاكمة فقلت رواية        أعطـوا لمخرجها وِسـام فنون

هي شر مهزلة ومأسـاة معًا        قـد أضـحكتني مثل ما تبكـيني

أوعت سجلات القضاء قضية         كقضية الإخوان أين؟ أروني؟

الخصـم فيها مدعٍ ومحـقق        وهـو الذي يقضي بلا قـانون

إلا هـواه وما يدور برأسـه         من خلـط سـكير ورأي أفـين

ويشير شاعرنا إلى حقيقة عجيبة واقعة في تلك المحاكمات، وهي أن رئيسها كان ضابطًا مريضًا بأمراض عصبية، ووصفه من رأوه وتعاملوا معه بأنه كان عصبيًّا متطرفًا في انفعالاته في صورة غير عادية، حتى إن رئيسه الذي عيَّنه على رأس تلك المحكمة كان يسميه "المجنون"

أرأيت محكمةً ترأَّسـها امرؤ         يدعـوه من عـرفوه بالمجنون

أرأيت أحرارًا رموا بهمو لدى         قـاض عـديم دينـه مـأبون

ثم يشير شاعرنا إلى أحد جوانب المأساة، لا يعرفها إلا من عايشها، وهي ما كان يلاقيه من يجرؤ من المتهمين على الإشارة إلى ما وقع عليه من تعذيب أو الإنكار؛ لما أجبروه عليه من الاعترافات:

والويل لامرئ استباح لنفسه         إظـهار تعـذيب ودفع ظنون

سـيعود للتعذيب يأخذ حظه          وجزاءه الأوفى من "البسيوني"

يوسف القرضاوي- ديوان "نفحات ولفحات"- القصيدة النونية

ويستعيد د. جابر الحاج بعض المشاهد الهزلية والمضحكة المبكية في آن واحد في هذه المحاكمات، أول ما يلفت انتباهه مهزلة الادعاء، حين يعلن في أول جلسة للمحاكمات أن قانون تشكيل المحكمة لا يستلزم وجود محامٍ مع المتهم، ويطالب بنظر القضية دون وجود محامٍ يترافع عن المتهم المسكين، فكل شيء جاهز على حد قوله، وهذا الهزل يعرضه شاعرنا على لسان المدعي:

الادعاء:

هؤلاء الواقفـون  أمامكـم          هم شر قوم أجرموا في حقنا

هذا هو التحقيق يثبت جرمهم        قد بيَّتوا بالغـدر قتل زعيمنا

ويشير الشاعر إلى ما ساد تلك الفترة من محاولة النفخ في صورة رئيس الوزراء، وتلميعه إعلاميًّا، وتكثيف الدعاية له حتى يكتسب تعاطف الشعب، وتحويله إلى زعيم فذٍّ في نظر الجماهير، وهو هنا يلمِّح لما قاله المؤرخون من أن ذلك كان أحد أهداف المسرحية:

كيف استباحوا قتل أعظم قائد         بطل أتانا كي يجـدد مجـدنا

عجز النساء يلدن مثل رئيسنا        فأتت بطلعته بشـائر نصرنا

لا ترحمـوهم واجعلوهم عبرةً       إعـدامهم حـق وإنقـاذ لنا

قد قـرر الجـاني بأنه مذنب         لم يبق داعٍ للدفاع يهمـنا

ليس الدفاع عن الشرار محتمًا        فوجـوده كغيابه في عرفنا

قد قال بالتفصيل عن شـركائه       وأدلـة الإجرام ثبتت عندنا

د. جابر الحاج- ديوان شطحات ثورة يوليو- قصيدة (المحاكمة)

ويسخر شاعرنا من المدعي، فيورد على لسانه قصة خديوي آدم الهزلية، التي زعموا فيها أن عامل بناء عثر على المسدس المستخدم في الجريمة، وسار على قدميه من الإسكندرية إلى القاهرة ليسلم المسدس إلى الرئيس بنفسه؛ وذلك حتى يبرروا عدم تطابق طلقات الرصاص مع المسدس المضبوط مع المتهم ساعة الحادثة

قد قرر الجاني بأنه مذنب             ومضـلل قد باء بالخسـران

وجدنا ظروفًا للرصـاص طريحةً      منثورة عـدت فكنَّ ثمان

هذا المسدس قد أتانا صـاغرًا         مسـتغفرًا تمشي به قدمان

لم لا وكل الشعب رهن إشـارة        لزعيمنا ورئيسـنا المتفاني؟!

ثم يكمل الادعاء مشاهد المرافعة الهزلية، فيطلب إعدام المتهمين عقابًا لهم وردعًا لغيرهم، وهذا كان هدف المحاكمة الأول.. الخلاص من الدعاة الأبرار، وإرهاب بقية الشعب وقهره، وردع من يحاول أن يعارض الباطل أو ينطق بكلمة حق:

جاء اعتراف المجرمين مؤكدًا           من غير ضغط فوق أي لسان

ونرى رءوسـًا أينعت وقطـافها        ردع لمن يعصي بأي مكان

في حكمكم ردع لمن شذوا              وتوجيه لكل الشـعب بالإذعـان

د. جابر الحاج- ديوان شطحات ثورة يوليو- قصيدة (المحاكمة)

ويعود هاشم الرفاعي بعد سنوات- مستغلاً ما حدث بالعراق من أحداث مشابهة- لوصف المحكمة والحكم عليها في أبيات قوية حارة، على لسان أمٍ سفكَ قضاةُ المحكمة دمه، وتروي لوليدها الرضيع فصول المأساة فتقول:

الحر يعرف ما تريد المحكمة    وقضاته سلفًا قد ارتشفوا دمه

لا يرتجي دفعًا لبهتان رماه به الطغاة   

                  المجرمون الجالسون على كراسي القضاة

حكموا بما شاءوا وسيق أبوك في أصفاده

                           كذبوا وقالوا عن بطولته خيانة

وأمامنا التقرير ينطق بالإدانة

                         هذا الذي قالوه عنه غدا يردَّد عن سواه

ما دمت أبحث عن أبي في البلاد ولا أراه

ترى هل ستظل أمتنا المسلمة مخنوقة بالقوانين الاستثنائية الشاذة، والمحاكم العسكرية الشاذة تخرس الأصوات وتخنق الهمسات، ولا تسمح إلا بترديد آيات النفاق..؟! وهل سيأتي يوم نسمع فيه من شعرائنا الأحرار أبياتًا تتغنى بالحرية، وتصدح بألحان العزة، وتهتف للإنسانية والكرامة.. ما ذلك على الله بعزيز.