مضى ما يزيد على النصف قرن على استشهاد الإمام "حسن البنا"- رحمه الله- وما تزال بعض القضايا التي جدد وجاهد فيها حية تستدعي التوقف عندها، ومناقشتها في إطارها الفكري والحضاري والنهضوي، ليس من قبيل تزكية الرجل والثناء عليه؛ ولكن من خلال دراسة مشروعه الفكري في قضية من أخطر القضايا التي تواجه الأمة العربية والإسلامية؛ وهي قضية الاستعمار، ذات الأبعاد المتعددة والوجوه المتغيرة.

وإذا كانت الأمة العربية قد بدأت تشهد عودة الظاهرة الاستعمارية في ثوبها الذي ظهرت فيه في القرن التاسع عشر، وهو ثوب الاحتلال العسكري المباشر، كما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان، فإنَّ العودة إلى رؤية الإمام الشهيد وموقفه من الاستعمار تصبح ضرورية، خاصةً وأنَّ الرجل تبنى مشروعًا متكاملاً لمواجهة الاستعمار؛ جمع بين استنهاض الأمة، وتجديد مفهوم المقاومة في تصورها الفكري، في ظلِّ كفاح استعماري لتفريغ الأمة من قوتها النفسية والروحية حتى يسهل الاستحواذ عليها، وإفراغ المفاهيم الإسلامية من معانيها حتى تصبح مفاهيم سلبية لا تمثل خطورة على الوجود الاستعماري، سواء كان عسكريًا أو اقتصاديًا أو فكريًا، وكذلك دور"البنا" في الكفاح والجهاد ضد الاستعمار بمعانيه الشاملة.

وقبل البدء من الضروري التأكيد على ما تميز به المشروع الذي جاء به الإمام "البنا" وهو أنه حول الفكر الإسلامي إلى حركة فعالة؛ بمعنى أنه حول كثيرًا من الأفكار والمبادئ الإسلامية إلى نماذج واقعية، فانتقل مفهوم الجهاد من حيزه الاعتقادي إلى حيز الممارسة العملية في جهاد النفس لقمع شهواتها، وجهاد الفقر بالعمل الاجتماعي ومحاولة تأسيس نواة لاقتصاد ومشاريع إسلامية، وجهاد المستعمر بإحياء مفهوم الجهاد، وبثُّ الارتباط الجوهري بين الإسلام كعقيدة تقوم على التوحيد والتحرر، وبين رفض الإسلام خضوع أتباعه للاستعمار وسيطرة المختلف عنهم عقائديًا، وحضاريًا، على حريتهم ومقدراتهم، ومن ثمَّ بث في الأفكار روحًا كانت غائبة عنها، فتحركت هذه الأفكار في المجتمع متمثلة في صورة رجال يؤمنون بها ويسعون لإحياء هذا المجتمع ليصبح حرًا مستقلاً.

الأمر الآخر أنَّ "البنا" لم يكتفِ بإحياء الأفكار؛ ولكنه وضع هذه الأفكار في إطار تنظيمي يكفل لها النمو والتجدد المستمر، والقابلية لاكتساب أنصار جدد، فكان إنشاء "جماعة الإخوان المسلمين" التي حملت هذه الأفكار المتحركة الحية، مما كفل لفكر "البنا" المقاوم للاستعمار أن يستمر بعد استشهاده.

ومن ثمَّ فالرجل لم يقل كلمته ويمض كغيره، إنما قال كلمته وترك أجيالاً ترددها من بعده، في كل بلد مسلم يريد أن يواجه الاستعمار انطلاقًا من الإسلام، وتلك هي روعة الرجل التي يجب أن نفطن إليها جيدًا، وهي أنه أحيا الأفكار، وجعلها أفكارًا ديناميكية، ووضع آليات تضمن استمرارها كمشروع وطني إسلامي في مقاومة الاستعمار.

البيئة التي جاء فيها مشروع "البنا" المناهض للاستعمار:

ولد "البنا" سنة (1906 م) وتميزت هذه الفترة بعدد من السمات والخصائص، جعلت مشروعه التحرري يتميز بالقوة والتجديد، والخطورة على الاستعمار، فقد ولد في فترة شهدت نوعًا من الطرح لمشاريع تحررية لتخليص الأوطان من المستعمر المختلف عنها عقائديًا وحضاريًا، غير أنها كانت مشاريع غير مكتملة لم يكتب لها البقاء رغم ما أحدثته من نهوض، فقد كانت مرتبطة بأصحابها، وفقدت توهجها عندما رحل دعاتها، ومن هؤلاء المصلحين "جمال الدين الأفغاني" الذي قام بتثوير العالم الإسلامي فكريًا ضد الاستعمار، والإمام "محمد عبده" وتلميذه "رشيد رضا" الذين دعوا إلى تربية الأمة حتى تقوى على النهوض؛ ولجئا إلى الصحافة لنشر أفكارهم في التربية والبناء والنهوض، ثمَّ جاءت ثورة 1919م التي جاءت كأول رد فعل مصري بعد ثمانية وثلاثين عامًا من الاستعمار البريطاني لمصر، فكانت بمثابة تحريك قوي للنفوس فجددت الآمال في الحرية والاستقلال.

كما جاء "البنا" بعد فشل المشاريع الوطنية الاستقلالية في الاعتماد على الخارج في تحقيق الاستقلال، ففي تلك الفترة وصل التعاون بين الدول الاستعمارية إلى درجة عالية من التنسيق والتقارب، وعبر عن نفسه في اتفاقات استعمارية لاقتسام مناطق النفوذ في العالم الإسلامي، مثل "الاتفاق الودي" بين "فرنسا" و"بريطانيا" سنة (1904م)، مما حدا بـ"حسن البنا" أن ينظر إلى الداخل لإنشاء مشروع وطني خالص بعيدًا عن الوصاية الخارجية.

كذلك جاء "البنا" في ظل محاولات استعمارية في بعض الأقاليم الإسلامية لممارسة دور تبشيري تنصيري؛ لتنصير المسلمين وإخراجهم من الإسلام، وتجلى ذلك في بلاد المغرب العربي، وفي الأنشطة التنصيرية التي تسترت وراء التعليم والصحة للنفاذ إلى عقيدة المسلمين؛ لاستلابها من قلوبهم كما اسُتلبت الأرض والثروة، ومساندة الاستعمار لأفكار تدعو المسلمين إلى الخنوع والاستسلام، وترديد كلمة "مكتوب.. مكتوب" للرضى بالاستعمار، فساند الإنجليز الدعوة "القاديانية" في الهند والتي رفضت أن تعترف بالجهاد في الإسلام، وساند الاستعمار الصوفية السلبية الانعزالية، التي لا همَّ لها في الحياة إلا ترديد الأوراد، وإشعال الاستعمار من خلف الكواليس لصراع ثقافي وفكري بين أبناء الأمة الإسلامية حول بعض ثوابتها، فظهرت في تلك الفترة المعركة الطويلة حول كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لمؤلفه "علي عبدالرازق" الذي نفى فيه أن يكون للإسلام علاقة بالحكم.

كما جاء "البنا" في وقت تهدمت فيه الخلافة الإسلامية؛ تلك الرابطة التي جمعت المسلمين على اختلاف أجناسهم وألسنتهم؛ إذ كان سقوط "الخلافة العثمانية" سنة (1924م) سقوطًا نهائيًا، وكذلك زرع المشروع الصهيوني في فلسطين بعد وعد "بلفور" سنة (1917م) والتحالف بين اليهودية العالمية والاستعمار؛ لخلق وطن قومي لليهود في (فلسطين).

مشروع "البنا" التحرري الاستقلالي:

تفتح إدراك "البنا" في مدينة "الإسماعيلية" تلك المدينة التي نشأت على ضفاف "قناة السويس" بعد افتتاحها، وكانت مدينة تعجُّ بالإنجليز المستعمرين ومَن يعاونهم، وفي تلك المدن تبدو حقيقة الوطن السليب، فهناك العادات الغربية وكذلك اللسان والشكل والتميز فيصبح للأجنبي كلَّ الحق، ويصبح أبناء الوطنْ هم الغرباء، وكان لهذا الإدراك المبكر لحقيقة الاستعمار أثره في مشروع "البنا" المقاوم؛ حيث أدرك ضرورة المقاومة الشاملة، وتحقيق الاستقلال الكامل، وكانت المعركة الأولى للبنا مع المفاهيم؛ فرفض كلمة الاستعمار، وأطلق عليه لفظ "الاستخراب"؛ ثم انطلق من رفضه للخطاب الاستعماري، الذي يضفي قيمًا على الاستغلال للشعوب المستضعفة، ليرفض "البنا" (الإسلام الغربي الذليل) الذي يحاول الاستعمار زرعه في نفوس المسلمين ليقبلوا بالذل والهوان، ورأى "البنا" أن يزلزل القاعدة التي يحاول الاستعمار تأسيسها لخلق "إسلام مستأنس"، فأصدر رسالته الشهيرة "رسالة الجهاد" التي بدأها بقوله: " إنَّ الله فرض الجهاد على كل مسلم؛ فريضة لا مناصَ منها، ولا مفر معها" ثم استعرض آيات الجهاد في القرآن الكريم، وما ورد فيه من أحاديث نبوية صحيحة، بطريقة تجعل الرضا بالذلِّ والقعود عن الرغبة في التحرر، والنكوص عن المقاومة للغاصب ذنبًا عظيمًا، وكان من ذكاء الرجل أنه عرض النصوص دون تدخل منه، ثمَّ ختم الرسالة بتضعيف ما جاء في الأثر "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب أو جهاد النفس"، وثم قال: "إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة ".

وكان "البنا" يرى أنَّ ما يريده الغرب هو إسلام لا شوكةَ فيه ولا سياسةَ ولا حكمَ، فكانت معركته الأولى مع الاستعمار في مجال الوعي، لأنَّ الجهاد والمقاومة للمستعمر يبدأ بالإرادة قبل السلاح والعتاد، فنبه أنَّ الجهاد ليس عقيدة فقط؛ بل شريعة تتطلب أن تترجم في الواقع، كما أنَّ الجهاد ليس أمرًا روحيًا فقط، بل هو سيرة متحققة في التاريخ الإسلامي، ومن الضروري على المسلمين تجديدها.

وبعد تصحيح المفهوم بدأ "البنا" يضع مفهوم الجهاد ومقاومة المستعمر في سياقه، فربط بين الجهاد وبين الحرية والاستقلال، وأن عبودية المسلم هي لله فقط وليست للإنجليز أو الفرنسيين، فكسر بذلك هيبة الاستعمار في النفوس وهدمها هدمًا، لا يفلح معه بناء بعد ذلك.

ثم وضع "البنا" قضية مقاومة الاستعمار في بؤرة الإحساس الشعبي؛ بالتركيز على مظالم الاستعمار، حتى يدرك الشعب حاجته للحرية، وأنَّ الحرية تأتي قبل الحياة، وتأتي قبل الخبز، فينتقل الظلم من هامش الشعور، إلى بؤرة الشعور، ومن ثم يصبح الشعب مؤهلاً لمواجهة الاستعمار، فخاطب "البنا" الشعب باللغة التي يفهمها، ولفت أنظاره إلى حجم النهب الذي تتعرض له ثرواته، واستغلال الأجانب لخيرات البلاد، فأخذت دروس "البنا" ورسائله بعدًا اجتماعيًا إصلاحيًا، ومن ذلك قوله في رسالته "مشكلاتنا الداخلية": "إن الأجانب الذين احتلوا هذا الوطن بغفلة من أهله، وتساهل من حكامه، وظلم من غاصبيه، أسعد حالاً من أهله وبنيه، وأنهم وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروة فيه".

كذلك اهتم ببعث الأمل في نفوس الشعب بإمكانية الاستقلال والتحرر، حتى يتحرك الشعب بنفس لا تعرف اليأس، فوجه خطابًا إلى الاستعمار في رسالته "إلى الطلاب" بشر فيه بإفلاس الفكرة الاستعمارية، وكان الخطاب في حقيقته إلى هؤلاء الطلاب لتبديد اليأس من نفوسهم، كما أنه لم يتردد في رسالة "المؤتمر الخامس" أن يقول: "في الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسيًا، وروحيًا؛ بالإيمان والعقيدة، وفكريًا؛ بالعلم والثقافة، وجسميًا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني؛ أن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد وجبار".

وقد دعا "البنا" إلى المقاومة الشاملة للاستعمار فدعا إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، فأسس "النظام الخاص" كتنظيم شبه عسكري لمقاومة الاستعمار والمشروع الصهيوني، ولعب هذا التنظيم دورًا هامًا في هذا الشأن رغم الاتهامات التي وجهت إليه، كما أسس "البنا" عددًا من الشركات لخلق نواة لاقتصاد إسلامي وطني بعيدًا عن هيمنة الاستعمار.

وقد أولى "البنا" اهتمامًا خاصًّا بقضية فلسطين، واعتبرها "قضية العالم الإسلامي بأسره"، وكان يؤكد دومًا على أن "الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، هي لغة الثورة والقوة والدم"، وأدرك حقيقة التحالف الغربي الصهيوني ضد الأمة الإسلامية، ودعا إلى رفض قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الأمم المتحدة سنة 1947م، ووجه نداءً إلى المسلمين كافة لأداء فريضة الجهاد على أرض فلسطين حتى يمكن الاحتفاظ بها عربية مسلمة.

كان للبنا آراء سديدة في قضية النهضة التي تشغل المسلمين منذ قرنين من الزمان، وما زالوا ينشدونها، فقد ربطها بقضية التحرر من الاستعمار والتبعية لأوربا من ناحية، وبالتقدم العلمي الذي يجب أن يحققه المسلمون من ناحية أخرى، وفي ذلك يقول: "لن تنصلح لنا حال، ولن تنفذ لنا خطة إصلاح في الداخل ما لم نتحرر من قيد التدخل الأجنبي"، ويقول: "لا نهضة للأمة بغير العلم"، وكان يرى أن تبعية المسلمين لأوروبا في عاداتها وتقاليدها تحول بينهم وبين استقلالهم ونهضتهم، يقول: "أليس من التناقض العجيب أن نرفع عقائرنا (أصواتنا) بالمطالبة بالخلاص من أوروبا، ونحتج أشد الاحتجاج على أعمالها، ثم نحن من ناحية أخرى نقدس تقاليدها، ونتعود عاداتها، ونفضل بضائعها؟!

إننا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة المشروع التحرري الاستقلالي الذي طرحه الإمام "البنا"، وموقفه من الاستعمار في تلك الفترة التاريخية التي نعيشها، لأن الرجل بنى مشروعه على الجمع بين الوعي والحركة والرؤية الشاملة للاستقلال، في إطار من العمل الإسلامي المنظم.