بقلم: صادق أمين

*الفرار بالنفس من دواعي الحرام.

*خطر المرأة الفاسدة.

*ضعف الحياء والغيرة من صفات المترفين.

*التحذير من وسائل الإعلام العالمية.

أما بعد..

فقد قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيَّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ ( يوسف: 25- 29).

في هذه الآيات الكريمات من قصة سيدنا "يوسف"- عليه السلام- مسائل ودروس وعبر:
أولها: في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾؛ أي تسابقا إلى الباب، كل منهما يريد أن يدركه ويلحقه قبل الآخر. يوسف الصديق يريد أن يلحق الباب؛ لينفذ بجلده وينجو بنفسه وعرضه، وامرأة العزيز تريد أن تدركه؛ كي تغلقه وتمنع يوسف من الخروج، فهذه الجملة القرآنية إضافة إلى ما فيها من براعة وبلاغة وطي لمواقف عديدة من القصة، فإنها تصور لنا ذلك الصراع المحتوم بين نفسين بشريتين. نفس نقية طاهرة تفر من الدنس، ونفس أخرى ملوثة تصر على الدنس، أما "يوسف" الصديق فكان حريصًا على النجاة بنفسه من حفرة المعصية التي راودته امرأة العزيز على التردي فيها، وأما تلك المرأة الآثمة الفاسدة فكانت مصممة على التردي في حفرة المعصية، وأن تجر "يوسف" الصديق معها.

وانطلقا نحو الباب مع الفارق الكبير بين الموقفين، وفي موقف "يوسف" الصديق درس لكل مؤمن ومؤمنة؛ على كل واحد أن يفر بنفسه لا من المعصية والإثم فحسب، بل حتى من دواعيهما؛ ولذلك لما تكلم الله تعالى عن قبح الفاحشة وخطورة الوقوع في الزنى قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 32)، نهى حتى عن مجرد القرب، فعلى من يريد أن يسلم من هذه الفاحشة القبيحة المقيتة أن يتحاشى الدواعي والأسباب التي يمكن أن تغريه وتحرضه على الوقوع في وحْلِها ومستنقعها في هذا العصر الحافل بالفتن والمغريات والدواعي التى تدعو إلى الانحلال والفساد وإلى ارتكاب الفواحش, فإن على كل مؤمن ومؤمنة أن يفر إلى الله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ (الذاريات: 50).

المسألة الثانية: سرعة بديهة تلك المرأة الآثمة الفاسدة؛ إذ لم تعقد المفاجأة لسانها وتشل تفكيرها عندما وجدت زوجها لدى الباب، فإذا بها أمامه وجهًا لوجه، وهي تسابق "يوسف" إلى الباب، بل بادرت بإلقاء التهمة على "يوسف" بقولها: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (يوسف: 25).

وهكذا المرأة المتمردة؛ فالمرأة إذا تمردت وتوغلت في أوحال الإثم والفساد، فإنها تكون غاية في الخبث والمكر والدهاء؛ ولذلك ترى في هذه الآيات أن كيدها وصف بأنه عظيم، بينما وصف كيد الشيطان في القرآن بأنه ضعيف بالمرأة إذا فسدت وتمرغت في وحل المعصية والإثم تكون أشد خبثًا وكيدًا من الشيطان نفسه، وأما تلك المرأة التي آمنت وصلحت واتقت ربها- عز وجل- فإنها تكون خير متاع الدنيا، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم.

المسألة الثالثة: في هذه الآيات يتضح أن حياة الترف، الحياة اللاهية العابثة المترفة المتحللة من القيود والضوابط الأخلاقية والآداب الشرعية، تصبغ أصحابها بصبغة قبيحة منتنة، ومن أسوأ نتائج تلك الحياة المترفة المتحللة ذلك الانفلات الأخلاقي والتحلل المعنوي الذي يصيب أصحابها؛ حتى لا يبقى لديهم شيء من الغيرة والحشمة والحياء.

هذا العزيز لما قام الدليل على إدانة امرأته، وثبت لديه أنها هي التي راودت "يوسف" عن نفسه، لم يحرك ساكنًا، وكان غاية ما قاله وفعله أن قال في الحال: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ (يوسف: 28)، هذا كل ما لديه من تأديب لامرأته الفاسدة الآثمة، بل أكثر من ذلك لم يحاول إبعاد ذلك الشاب الممتلئ رجولة وحيوية ووسامة عن امرأته، بل تركه حيث هو، و"يوسف" الصديق كان مغلوبًا على أمره، كان مملوكًا مقهورًا، وإلا فلو كان الاختيار بيده لما تردد في الفرار بنفسه من تلك البيئة العفنة الملوثة، لكنه صبر مقهورًا ومغلوبًا على أمره، متحصنًا بما حماه الله به.

ومثل هذا الموقف من العزيز إنما هو مثال لما يمكن أن تصنعه الحياة المترفة المسرفة المتخللة اللاهية العابثة، لما يمكن أن تصنعه من أجل الرجل؛ حيث تقضي فيه على كل معاني الرجولة والغيرة والحياة، هذا الموقف من العزيز هو ما يسمى في الشرع بالدياثة، وقد ذمَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- الديوث وقال: "لا يدخل الجنة ديوث"، والديوث هو الذي يرضى على أهله السوء والفحشاء والوقوع في الدنس.

فيا أيها المسلمون، اتقوا الله- عز وجل- واحذروا حياة الترف، احذروا الحياة اللاهية العابثة المتحللة، التي لا تضبطها الضوابط الأخلاقية، ولا تقيدها الآداب الشرعية، حتى أولئك الذين وسَّع الله عليهم، وأنعم عليهم من رزقه، فإن عليهم أن يحرصوا كل الحرص على حماية أنفسهم وأهليهم وأولادهم من حياة الترف، وأن يقصروهم على الآداب الشرعية على الصلاة، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ (طه: 132)، فيا أيها المسلمون، قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة.

روى "مسلم" في صحيحه عن "أبي هريرة"- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرأ كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، وفي الصحيحين عن "المغيرة بن شعبة"- رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قيل وقال؛ أي كثرة الحديث وكثرة الكلام بدون روية ولا تدبر ولا تثبت ولا تبين، وفي سنن "أبي داود" أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "بئس مطية الرجل زعموا"، وهذه هي التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين "وكالة يقولون"، فترى كثيرًا من الناس يتناقلون الأحاديث والإشاعات والأخبار بدون روية ولا تثبت، وقد يسهمون بذلك بفتِّ عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم، وبث الرعب في قلوبهم، فيخدمون بذلك دون أن يشعروا أهداف العدو، فإن العدو غاية ما يسعى إليه هو ضعضعة معنوياتنا، وإلقاء الرعب في قلوبنا، وإضعاف إيماننا.

إن الحرب النفسية الآن لا تقل شراسة عن الحرب العسكرية، الحرب النفسية الآن محتدمة بين الأطراف كلها كما هو الشأن في الحرب العسكرية، فكل الأطراف يستخدمون هذا النوع الذي هو الحرب النفسية؛ لأنه سلاح هام، وفي مثل هذه الظروف والمحن، فإن هناك جهات مغرضة تنتهز هذه الفرصة للدس والتشويش بهدف زعزعة معنويات المسلمين، وإضعاف إيمانهم، وبث الرعب في قلوبهم، فعلى كل مسلم وكل مسلمة أن يتحاشوا نقل شيء من الأخبار والشائعات أو المقالات أو التوقعات أو التحليلات, إذا كانت مما يضعف معنويات المسلمين ويبث الرعب في قلوبهم، علينا جميعًا أن نتحاشى ذلك وأن نتثبت من الأخبار، فإن من يتتبع الإذاعات الأجنبية اليوم ووسائل الإعلام العالمية يتحير ويتخبط في حيرته من تناقض الأخبار والتحليلات والتوقعات والمقالات، ونحو ذلك من الوسائل الإعلامية، وربما وقع فريسة لبعض تلك الجهات المغرضة الحاقدة المعادية، فعلى المسلم أن يمتثل لتوجيه النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم- لا يُحدِّث بكل ما سمع، لا ينشر بين الناس كل ما يسمع وما يقرأ، بل عليه أن يتحاشى نشر أي شائعة أو خبر أو تحليل أو نحو ذلك إذا كان فيه فتٌّ لعضد المؤمنين، وإضعاف لمعنوياتهم، وزعزعة لإيمانهم، وبث للرعب في قلوبهم، حتى ولو كان ذلك صحيحًا..

المنافقون لا يفوتون مثل هذه الفرص، ويحرصون على اغتنامها؛ للتشويش على المسلمين، ولإلحاق الضرر بهم، وهذه خصلة فيهم ذكرها القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ (النساء: 83)؛ أى نشروه وبثوه ليلقوا الرعب في قلوب المؤمنين، ويشوشوا عليهم، ويركبوا صفوفهم، ولو ردوه إلى الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ بِهِ﴾ (النساء: 83)، فاتقوا الله أيها المؤمنون، وليحذر كل واحد منكم أن يكون إذاعة متنقلة للعدو، يحقق أهدافه المعنوية دون أن يشعر.

فعليكم أيها المسلمون بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن الجماعة هي تلك المتمسكة بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم أجمعين.