ذكر عثمان بن بزدويه الإمام وهب بن منبه بقوله: كنت مع وهب بن منبه وسعيد بن جبير يوم عرفة، تحت نخيل ابن عامر، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله كم لك منذ خفت من الحجَّاج؟!

قال: خرجت عن امرأتي وهي حامل، فجاءني الذي في بطنها وقد خرجت له لحية في وجهه، فقال له وهب: إن من كان قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاءٌ عدَّه رخاءً، وإذا أصابه رخاء عده بلاءً.

وكان يقول لمن يحسب الأشياء على غير وجهها، ولا يتحمل تبعات الأمور: "إن للنبوة أثقالاً ومؤونةً، لا يحملها إلا القوي، وإن يونس بن متى كان عبدًا صالحًا، فلما حُملت عليه النبوة تفسَّخ تحتها، تفسخ الربع عن الحمل- وهو الجمل الصغير الذي لا يستطيع الحمل- فرفضها من يده فخرج هاربًا، فقال الله لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-: ﴿اصْبِرْ كَمَا صَبَر أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، وقال: ﴿فَاصْبِر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوْتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾.

فالنفوس القوية لا تزداد قوةً ولا تعظم هيبةً ولا تعلو مكانةً ولا تنبل شرفًا.. إلا بالإيمان، وبمقارعة الخطوب، واقتحام الأهوال، وتحدي الصعاب، وتحمل المشاق.

ومن ظن أن المكانة العظيمة تتحقق بالسهل من الأمور فقد أخطأ، وهذه هي الحقيقة العظيمة التي أراد الإمام تثبيتها وتوصيلها إلى كل الذين يسيرون على درب محمد- صلى الله عليه وسلم- أن طريق العزائم الماضية، والهمم العالية، والنفوس الكبيرة.. التي تتجلد وتتحمل وتصبر.. فلا يستخفها طمع، ولا يحركها جشع، ولا يرهبها فزع.. هذه هي الحقيقة التي يجب أن يدركها السائرون إلى الله بصدق وجلاء، وعليهم قبولها، بلا خوف أو وجل أو تردد.. فلا يصلح لهذا الشأن خائف أو متردد.. البلاء نعمة.. والنعمة بلاء.. الشدة رخاء.. والرخاء شدة.