من تراث الراحل د. توفيق الواعي

بصرف النظر عن خيانة الخائنين، وإفساد المفسدين، وعمالة المستعبدين، وجبن الخائرين، وشهوات المترفين، وطفولة العابثين، وبالإغضاء عن مئاتٍ من صفاتِ الهازلين.. يتساءل الناس عن عداوة أهل التقوى والدين.. لِمَ؟

وهم الأمناء الصادقون، والمستقيمون الصالحون، والأوفياء المخلصون والشجعان المدافعون، وأولو العزم الناصحون، وأصحاب العقول النابهون، وأهل الرجولة الموفون، الصادقون في البأساء والضراء وحين البأس المجاهدون.

والأمة في حاجةٍ إليهم لتغيير وجهها القبيح، وانكسارها الفاضح وتبلُّدها الجبان، وتأخرها المذري، وتخلفها المميت، قد يجاب بإجابة واحدة: إنه الضياع والفساد والظلم والبغي يا صديقي.. إنه العمى والسفه والخور والضياع يا أخي:

مَن يزرع الشرَّ يحصد في عواقبه                  ندامةً ولحصـدِ الزرع إبَّـان

يا ظالمًا فرِحًا والعز ساعـده              إن كنتَ في سِنةٍ فالدهر يقظان

إنه البغي والظلم والعمى الذي لا يكاد يبين، وتلك هي العواقب الوبيلة:

ولو بغى جبلٌ على جبلٍ                  لانهدَّ منه عاليه وأسفله

لا تمنعها صلابتها ولا ارتفاعها من الاندكاك على رءوس أصحابها الباغين، وتصير ترابًا تدوسه الأقدام:

تتناثر الأطواد وهي شوامخ             حتى تصير مداوس الأقدام

هذا، وإن كان مستغربًا من المتنفذين الحاكمين، فما بالك بالمنافقين البائعين نفوسَهم للنخاسين والأسياد المفسدين والمدافعين عن المبطلين؟! أليس لهم عقل؟! أليس لهم شرف؟! أليس لهم دين؟! نعم.. ولكنهم النابحون؛ لا يستحقون لتفاهتهم اللوم أو نصح الناصحين.

كلاب الناس إن فكَّرت فيهم               أضرُّ عليك مـن كلب الكلاب

لأن الكلب لا يؤذي صديقًـا              وإن صديق هــذا في عذاب

فأخزى الله أثوابـًا عليـه              وأخـزى الله مـا تحت الثياب

مالنا ولهؤلاء؟!؛ لأنهم صنفٌ معروفٌ تربأ بنفسك- ولو قُطِّعت إربًا- أن تكون منهم أو تسير بسيرتهم؛ لأنه خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ولعنة الله في الآخرة والأولى، قال ابن المقفع: "إقبال السلطان تعب، وإعراضه مذلة"، وقال: "السلطان إن أرضيته أتعبك، وإن أغضبته أغضبك، وإذا أردت السير معه فإن جعلك أخًا فاجعله ربًّا، وإن زادك فزده".

هذا، ولكنني أريد أن أجنح إلى صنفٍ آخر، وهم حمَلة الرسالة، ورافعو علم الهداية والنور الذين يدفعون ضريبة هذا الفساد، ويتحملون تبعةَ الجهد للصلاح والإصلاح في مقابل الخونة والظالمين من زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من صحابته والتابعين لهم بإحسان، وكانت فواجعُهم فواجعَ، وآلامُهم آلامًا، أمام الجاهلية وأمام الخائنين، فهيا لنرى رجولة الشباب الذين بنَوا للإسلام الصروح، وأشادوا له العروش، وتحملوا الأعباء وباعوا النفوس لله رب العالمين، وهذا صهيب- رضي الله عنه- حين عُرض عليه الرجوع عن الإسلام ليتركوه طليقًا لمَّا أرادوا قتله فقال:

وعرضوا بالكفر والموت دونه             وقد زرفت عيناي من غير مدمعِ

وأما خبيب بن عدي فروي عن ماوية مولاة ابن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان خبيب قد حُبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يومًا وإن في يده لقطفًا من عنبٍ مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبًا يُؤكل، قالت: وقال لي حين حضره القتل: ابعثي إليَّ بحديدةٍ أتطهر بها للقتل، فأعطيتُ غلامًا من الحي الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل، قالت: فوالله ما هو إلا أن قد ولَّى الغلام بها إليه، فقلت: ما صنعتِ؟! أصاب- والله- الرجل ثأره بقتل هذا الغلام، فيكون رجلاً برجل، فلمَّا ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدرتي حتى بعثتك بهذه الحديدة، ثم خلَّى سبيله مبتسمًا رضيًّا؛ لأنها العهد والأمانة والصدق في الإسلام، ويقال إن الغلام كان ابنها.

قال ابن إسحاق: ثم خرجوا بخبيب، حتى إذا جاءوا به التنعيم ليصلبوه، قال: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع ركعتين، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعًا من القتل لاستكثرت من الصلاة، فكان خبيب أول مَن سَن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين، قال: ثم رفعوه على خشبته، فلما أوثقوه، قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يُصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، ثم قتلوه- رحمه الله ورضي عنه- وهو يقول:

ولست أبالـي حيـن أقتـل مسلمًا              على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك فــي ذات الإلـه وإن يشـأ             يبـارك علـى أوصـال شلوٍ مُمَزَّع

هؤلاء هم رجال الإيمان واليقين في كل عصر

وبعد أيها الإخوة المجاهدون.. فلقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم على دعائم قوية من الإيمان بالله، والزهادة في متعة الحياة الفانية، وإيثار دار الخلود، والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق، وحب الموت في سبيل الله، والسير في ذلك كله على هدي القرآن الكريم.

فعلى هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم، وأصلحوا نفوسكم، وركَّزوا دعوتكم، وقوَّدوا الأمة إلى خير، والله معكم، ولن يتركم أعمالكم.

وفي هذا يقول الإمام البنا- رحمه الله-: "أيها الإخوان المسلمون.. لا تيأسوا؛ فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، وما زال في الوقت متسع، وما زالت عناصر السلامة قويةً عظيمةً في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ (القصص).

إن الزمانَ سيتمخض عن كثيرٍ من الحوادث الجسام، وإنَّ الفرصَ ستسنح للأعمال العظيمة، وإن العالم ينظر دعوتكم دعوةَ الهداية والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام، وإنَّ الدورَ عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب، ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 140)، ﴿وَتَرْجُونَ مِنْ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ (النساء: من الآية 104)، فاستعدوا واعملوا اليوم؛ فقد تعجزون عن العمل غدًا.

لقد خاطبت المتحمسين منكم أن يتريثوا وينتظروا دورة الزمان، وإني لأخاطب المتقاعدين أن ينهضوا ويعملوا؛ فليس مع الجهاد راحة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69)، وإلى الأمام دائمًا؛ فالنصر على الظلم إن شاء الله قريب، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40)، والله أكبر ولله الحمد".